امتهان الإنسان جريمة حتى لو قامت به أميركا
في مرحلة معينة من العمر، ومع اندفاع الشباب المرتبط بالإيمان غير المنطقي بالأفكار والمعتقدات، كان يمكن أن أجد تبريراً لقيام جماعة ما صاحبة فكر معيّن باضطهاد جماعة أخرى لها فكر مخالف.كنت أرى تبريراً لتجاوزات في حقوق البشر التي وقعت في مرحلة من تاريخنا، لأنني كنت مقتنعاً بأفكار تلك المرحلة، ورأيت وقتها أن الخلاف يبيح التجاوز في استخدام القوة لحماية الثورة أو للدفاع عن الفكرة، ولكن مع تقدم العمر، وفي إطار مرحلة إعادة تقييم ما فات من أفكار ومعتقدات، وهي مرحلة مررت بها منذ عدة سنوات، فقد وصلت إلى قناعة تتخطى حدود الفكرة السياسية الضيقة إلى ما هو أكثر إنسانية، ومن بين ما اكتشفته وآمنت به أخيراً أنه لا يوجد على الإطلاق ما يبيح لإنسان أن ينتهك إنساناً آخر، ولا توجد فكرة أو معتقد يمكن أن يكون مبرراً للتجاوز لامتهان إنسان لإنسان، ولا توجد عقيدة أو نظام يمكن القبول تحت لوائه بتعذيب شخص أو امتهان كرامته.
وقد تبدو هذه الفكرة غير منطقية وغير عملية في أحيان عديدة، لكنها حالة، أو بشكل أدق عقيدة لديّ في هذه المرحلة من العمر ترفض امتهان الإنسان تحت أي ظرف أو لأي سبب. البديل الذي أراه دائماً هو القانون الذي يجب أن يكون السبيل الوحيد للتعامل مع الآخر، الذي يحتل الطرف الآخر، حتى لو كان طرفاً معادياً، حتى الحروب تحكمها قوانين.استعدت هذه الأفكار وأنا أتابع "العار" الأخير الذي حملته الإدارة الأميركية، عندما انكشفت أمام العالم كله كدولة لا تختلف عن أسوأ الدكتاتوريات التي تدعي أنها تحاربها، تمارس أجهزتها التعذيب، ولكن مع قدرات جديدة تليق بالدولة سيدة العالم.سقطت الإدارة الأميركية سقوطاً مدوياً، وفقدت في أعين الكثيرين احتراماً كان يحمله البعض لها، باعتبارها الدولة المدافعة عن الحريات. ولكن سقط القناع وظهر الوجه الحقيقي، وللأمانة ينبغي أن نشير إلى أن جزءاً من هذا المجتمع ومبادئه كان سبباً في هذا الانكشاف المخزي للإدارة الأميركية.بعد أشهر من الترقب، نشر مجلس الشيوخ الأميركي (الثلاثاء) الماضي، جزءاً من التقرير حول عمليات تعذيب قامت بها وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) في سجون سرية، واتهمها بالكذب على الجمهور وعلى الكونغرس والبيت الأبيض حول مدى كفاءة استجواباتها، وأنها كانت أعنف مما اعترفت به الوكالة حتى الآن، وأكد التقرير الذي أعدته لجنة من مجلس الشيوخ الأميركي، واستغرق 4 سنوات بميزانية تقارب 40 مليون دولار، أن وكالة الاستخبارات الأميركية لجأت إلى أساليب عنيفة وغير فعالة خلال استنطاق محتجزين بعد أحداث الـ11 من سبتمبر، وذكر أنه "بعد دراسة 20 حالة" تأكد أن التعذيب الذي مارسته وكالة الاستخبارات على محتجزين لم يخلص إلى نتائج إيجابية، وكان له أثر عكسي. وأشار التقرير كذلك إلى أن "تقنيات الاستجواب التي استخدمتها الـ "سي آي إيه" لم تساعد في أي وقت من الأوقات في الحصول على معلومات مؤكدة بوجود تهديدات إرهابية"، كما أفاد بأن بعض "المعلومات التي كانت تخبر عن وجود هجمات مدبرة بقنابل عن بُعد زعمت الوكالة أنها حصلت عليها بعد عمليات الاستنطاق، كانت مغلوطة". "برنامج الـ "سي آي إيه" للاعتقال والاستجواب" أجازته سراً إدارة جورج بوش الابن في 2002، بعد أشهر من توقيع الرئيس بوش مذكرة تجيز للـ "سي آي إيه" قتل وأسر واستجواب قادة في "القاعدة" في العالم، ودافع نائب الرئيس السابق ديك تشيني، وهو إدارة الرئيس جورج بوش بقوة عن تقنيات الاستجواب المشددة هذه، معتبراً أنها "مبررة تماماً"، وقال متحدثاً لصحيفة نيويورك تايمز إنه "تم السماح بالبرنامج... والتدقيق فيه من وجهة نظر قانونية من قبل وزارة العدل"، معتبراً أن عناصر الـ "سي آي إيه" الذين نفذوا هذا البرنامج "ينبغي تقليدهم أوسمة عوضاً عن انتقادهم".تعددت أساليب التعذيب، وبدا كأن بعض علماء هذه القوة العظمى أنفق وقتاً في دراسة النفس البشرية، ليس لفهمها من أجل علاجها أو تقويمها في حال الاحتياج، بل لمعرفة أكثر الوسائل نجاعة في تحطيم النفس البشرية باستخدام وسائل تعذيب قادرة على دفع من يتعرض لها إلى الانهيار السريع، وبالتالي الاعتراف، أو فعل ما يطلب منه.إضافة إلى الإيهام بالغرق كانت أساليب الاستجواب تشمل، وفقاً لشهادات معتقلين، الصفع أو الضرب والإخضاع لدرجات حرارة متدنية، والإرغام على البقاء في أوضاع مؤلمة لفترات طويلة والحرمان من النوم.وذكر تقرير داخلي لـ "سي آي إيه" في 2004 رفعت عنه السرية جزئياً في 2009 أيضاً إعدامات وهمية، واستخدام مسدس وآلة ثقب للإخافة.بعض صحف العالم خرجت وهي تحمل عنوان "يوم العار الأميركي"، وقد صدقت، بل هو يوم عار للإنسانية التي تنتهك كل يوم في كل شبر.