غياب الديمقراطية مبرر لظهور «داعش»
لا يمكن مواجهة الإرهاب إلا بتحصين عقول الشباب، ثقافياً ومعرفياً ودينياً، بقيم التسامح وقبول الآخر والاعتدال والتنوير عبر تنقية المناهج من الغلو والإقصاء والكراهية، والانفتاح على الثقافات والفلسفات والفنون.
استوقفتني كتابات محللين عرب وغربيين يعللون ظهور "داعش" بغياب الديمقراطية عن عالمنا العربي؛ ولذلك هم يعارضون مواجهته بالوسائل العسكرية، وينادون بأولوية تطبيق الديمقراطية على محاربة الإرهاب بالعمل العسكري الذي يمكن أن يثمر نتيجة عكسية وفقاً لتصورهم، وهذا التعليل يذكرني بالتعليل الذي كان يبرر به قبل 13 عاماً عندما ضرب "القاعدة" رموز الشموخ الأميركي، حيث قال البعض إن الظاهرة الإرهابية مرتبطة بغياب الحريات وتعسف السلطات العربية وبطشها بالسجناء، وبخاصة من أفراد الجماعات الإسلامية، أي أن الظاهرة الإرهابية هي رد فعل على عنف الدولة وبطشها بالحريات. وفي تصوري أن هذه التعليلات تخلط بين الأسباب العقيدية والأيديولوجية– أي العوامل البنيوية الأساسية- لظاهرة الإرهاب والدوافع السياسية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية التي تعد العوامل المساعدة، وذلك خلط معيب، منهجياً ومعرفياً، لا يعين على تفهم الظاهرة فهماً سليماً ولا على حسن تشخيصها وعلاجها، فالإرهاب لا يصنعه "الاستبداد السياسي" ولا "البؤس الاجتماعي" ولا "المظالم الأميركية والإسرائيلية".
وكما يقول الكاتب محمد الحداد في مقالة متميزة "لا شك في أن الاستبداد والبؤس يدفعان إلى اليأس المؤدي بدوره إلى الإرهاب، لكن لو اقتصر الأمر على هذا الجانب، لرأينا الإرهاب يتراجع في بلدان الثورات العربية التي فتحت أبواب الأمل في الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، لكننا نرى العكس، فهذه البلدان تحديداً هي التي أصبحت أكبر ضحايا الإرهاب وأبرز مصنعيه ومصدريه، واستفحل الإرهاب فيها إلى أن ذهبت الثورة ضحية من ضحاياه". نعم العامل السياسي عامل مساعد في تأجيج الإرهاب لكنه غير مصنع له، فما يصنع الإرهاب هو الثقافة، أي الطريقة التي يتعامل بها الناس مع التحديات التي تواجههم، فيمكن لمن يواجه الاستبداد أن يناضل من أجل الديمقراطية، كما حصل في أميركا الجنوبية وأوروبا الشرقية، أما أن يقرر آلاف الشباب أن يواجهوا ذلك بالانخراط في جيش "داعش" فهذا يعني أن هناك "خللاً ثقافياً" يدفع باستمرار لمواجهة مشاكل العصر بحلول من خارجه، وهي مبثوثة في مكتباتنا ومدارسنا وإعلامنا وخطبنا، تجعل هؤلاء يعيشون على حلم استعادة الخلافة. فهل تنتهي ظاهرة الإرهاب بتحقيق الديمقراطية؟! إذاً لماذا يسعى الآلاف من شباب المسلمين الذين يعيشون في بيئات ديمقراطية متقدمة في الغرب إلى الالتحاق بـ"داعش"؟! أي مظلمة سياسية دفعتهم للانضمام إلى أبشع تنظيم إرهابي؟! وما تفسير دوافع أبناء الجاليات الإسلامية المقيمة في الغرب الذين تحولوا إلى مفجرين في مترو الأنفاق الحاشد بالمدنيين الأبرياء؟! هل هؤلاء عانوا تضييقاً في الحريات وقساوة في المعاملة أم هم كانوا مدللين في المجتمعات الأوروبية؟! لو كان تحقيق الديمقراطية كافياً في معالجة فكر التطرف لكان المتطرفون الذين أعطتهم بريطانيا كل حرياتهم وحقوقهم وآمنتهم من مطاردة بلادهم، شاكرين للجميل غير ناكرين للفضل، أو على أضعف الإيمان غير حاقدين على البلد الذي آواهم وآمنهم من خوف وأطعمهم من جوع!إن التطرف فكر وثقافة، لهما امتداد في تراثنا وتاريخنا الطويل إلى أيام الخوارج القدامى الذين خرجوا عن المجتمع الصحابي– من غير أي مظلمة واقعة عليهم– واستباحوا دماء المسلمين تحت شعار "الحاكمية"، فالدافع الأساسي المحرك لكل التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها "داعش" هو عقيدة الكراهية العميقة والمؤصلة في نفوسهم، لا مظالم سياسية يدّعونها، أو يتذرع بها محللون ويرفعونها كقميص عثمان، بهدف الاستغلال السياسي والتكسب الشعبي وادعاء الدفاع عن الحريات، وإثارة الجماهير ضد الأنظمة القائمة. إن تبرير الظاهرة الإرهابية بغياب الديمقراطية نوع من التسييس الذي يساعد في تنامي الإرهاب وانتشاره عبر التظاهر بالبطولة والدفاع عن حقوق الشعوب، في مواجهة الأنظمة القائمة، وهؤلاء الذين يريدون "تسييس الإرهاب" بربطه بالمظالم الأميركية وغياب الديمقراطية وقضية فلسطين، إنما يريدون خدمة أجندة أيديولوجية وحزبية ضيقة، هدفها الوصول إلى السلطة لا غير. وإن أسباب الظاهرة الإرهابية العميقة كامنة في نفسية وعقلية تكفيرية قمعية إقصائية، تنظر إلى الآخرين من غير المنتمين باستعلاء، باعتبارها مالكة للحقيقة المطلقة وضامنة لأصحابها الجنة دون بقية الناس، لقد قال المغربي الذي قتل المخرج الهولندي: لقد تصرفت انطلاقاً من معتقداتي الدينية، ولو أفرج عني لفعلتها ثانية! وقال لوالدة المخرج التي كانت تبكي في المحكمة: لا أستطيع أن أتعاطف معك لأنك كافرة!! هكذا تفعل عقيدة الكراهية في الإنسان حين تحوله إلى كائن لا قلب له! والغريب أن هؤلاء الذين ينادون بالديمقراطية حلاً للمشكل الإرهابي يناقضون أصحابه الذين يعتبرون قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية مفاهيم غربية كافرة، إذ يسعون إلى دولة دينية يحكمها خليفة مطلق السلطات لا محل فيها للحريات!ختاماً: لا يمكن مواجهة الإرهاب إلا بتحصين عقول الشباب، ثقافياً ومعرفياً ودينياً، بقيم التسامح وقبول الآخر والاعتدال والتنوير عبر تنقية المناهج من الغلو والإقصاء والكراهية، والانفتاح على الثقافات والفلسفات والفنون. *كاتب قطري