زيارة إسرائيل والضفة الغربية اليوم أشبه بزيارة كوكبين مختلفين، إذ يتساءل المرء إن كان الوضع القائم سيؤدي في نهاية المطاف إلى تصادمٍ سياسي، وربما مسلح، بين الجانبين، فأحد الأسباب المرجحة للفكرة هذه غياب الحديث عن مفاوضات مباشرة لدى الطرفين، فمن جهتهم يعمل الفلسطينيون على تطبيق استراتيجية دولية مزدوجة، في حين ينشغل الإسرائيليون بالانتخابات الوطنية المزمع إجراؤها في 17 مارس، ولدى الإسرائيليين أولويات أخرى كذلك أكثر إلحاحاً من المحادثات، من بينها تقييم احتمالات التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، بالإضافة إلى التعامل مع النتائج العرضية للأحداث التي وقعت على الحدود مع إيران و"حزب الله" بالقرب من مرتفعات الجولان.

Ad

«انتفاضة دولية»

يمكن إسناد الابتعاد الفلسطيني عن المحادثات المباشرة إلى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي يبلغ الثمانين من عمره هذا الربيع، فاستراتيجيته المزدوجة ترتكز بالدرجة الأولى على السعي إلى الحصول على قرارٍ واحد على الأقل من مجلس الأمن الدولي، وتوجيه اتهامات ضد إسرائيل أمام "المحكمة الجنائية الدولية" بالدرجة الثانية. ومن غير الواضح إذا كان عباس يعتقد أنّ هذه الاستراتيجية الجديدة ستنجح بالفعل أم أنّه يحاول تعزيز إرثه السياسي ليس إلا، وقد لفت مسؤول أمني إسرائيلي إلى وجود احتمالٍ كبير بأن يكون عام 2015 سنة "الانتفاضة الدولية"، ملمّحاً بذلك إلى التأثير المحتمل وغير المباشر لأعمال الرئيس عباس.

وبهدف التصدي إلى المناشدة الفلسطينية للمؤسسات الدولية تحجز إسرائيل عائدات الضرائب الفلسطينية الشهرية المقدرة بنحو 127 مليون دولار، وهي أموال ضرورية لصرف رواتب المسؤولين الحكوميين، وتشكل أيضاً جزءاً مهماً من الميزانية الفلسطينية، وفي هذا السياق أعلن وزير خارجية السلطة الفلسطينية رياض المالكي الأسبوع الماضي أن الفلسطينيين سيأخذون قروضاً لتسديد 60 في المئة من رواتب شهر يناير، ودعا 75 سيناتورا أميركيا وزير الخارجية الأميركية جون كيري إلى قطع المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة أيضاً، ومن غير المرجح الإفراج عن الإيرادات الضريبية قبل تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة ربما في أواخر مايو.

ويعكس توجّه الفلسطينيين إلى الساحة الدولية انحرافاً عن الاهتمام الذي أبدته السلطة الفلسطينية بالسياسة الإسرائيلية المحلية سابقاً، ففي مواسم الانتخابات السابقة، كان الرئيس عباس يرحب بالوفود الإسرائيلية السياسية ويجري مقابلات عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية، ولكن في الوقت الحالي يبدو المسؤولون الفلسطينيون غير مهتمين بنتيجة الانتخابات الإسرائيلية، ويقول مسؤولون في السلطة الفلسطينية إن المجتمع الدولي، وليس القادة الإسرائيليون، هو من يحمل المفتاح الذي يحدّد مستقبل الفلسطينيين، وقد أسفرت هذه المقاربة عن أجواء توتر تضمنت شكاوى واضحة من الأعضاء العرب في الكنيست الذين شكوا من أن المقاربة التي تعتمدها السلطة الفلسطينية قد تكبح الإقبال العربي الإسرائيلي على المشاركة في الانتخابات، وفي خطاب ألقاه خلال اجتماع في جامعة الدول العربية صرّح الرئيس عباس: "الإسرائيليون لن يعطونا شيئاً، لا قبل الانتخابات ولا بعدها، ولا نعول على من سيأتي للحكم (في إسرائيل) مرة أخرى... لا أعتقد أننا ننتظر شيئاً مفيداً بعد الانتخابات الإسرائيلية، ويجب أن يقنع العالم إسرائيل أن سياساتها خاطئة ويجب تغييرها".

وإذ يتصور المسؤولون في السلطة الفلسطينية أن خلاصهم هو بين أيدي مجلس الأمن الدولي و"المحكمة الجنائية الدولية"، يبدو أنهم يعتقدون أن فرنسا ستجدد مشروعها بفرض "مرجعيات" بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن حول كيان الدولة الفلسطينية وإنهاء النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين، وذلك بعد فترة قصيرة من تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، ويشمل ذلك العودة إلى حدود عام 1967 مع تبادل بعض الأراضي وإقامة عاصمتين في القدس، ويأمل الفلسطينيون أن تصوت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لمصلحة هذا المشروع أو أن تمتنع عن التصويت، لا أن تفرض الفيتو، وهو ما أقدمت عليه مرة واحدة فقط- في ما يتعلق بمسألة المستوطنات- في غضون ست سنوات.

ومع أن الجمعية العامة للأمم المتحدة تصدر بانتظام قراراتٍ تعتبرها إسرائيل والولايات المتحدة معادية لسياستهما، سيشكل القرار المستقبلي الذي يسعى إليه الفلسطينيون القرار الأول الذي يصلح كنموذج للدولة الفلسطينية، وقد وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هذه المقاربة بأنها حلّ مفروض على إسرائيل وأنها سترفضه، مع ذلك تبقى تساؤلات حول إذا كان الفلسطينيون أنفسهم قد يقبلون بقرار يتضمن صيغاً قد لا تروق لهم، مثل الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية أو فرض القيود على إعادة تمركز اللاجئين الفلسطينيين، ففي ديسمبر تراجع الفلسطينيون عن دعمهم لمشروع قرار أولي لا يشمل سوى أدنى التنازلات.

أما في ما يخص مسار التوجه إلى "المحكمة الجنائية الدولية"، ففي 30 ديسمبر- أي الذكرى الخمسين لتأسيس حركة "فتح"- وقّع الرئيس عباس عشرين معاهدة دولية، من ضمنها "نظام روما الأساسي" لـ"المحكمة الجنائية الدولية"، الأمر الذي يمكّن المحكمة، من حيث المبدأ، ممارسة اختصاصاتها في ما يتعلق بالتطورات المستقبلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويخول أيّاً من الدول الـ160 التي وقعت على هذا النظام أن تطالب بمثول إسرائيل أمام المحكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب.

وليس مستغرباً أنّ المناورة التي قامت بها السلطة الفلسطينية لدى "المحكمة الجنائية الدولية" أثارت غضب المسؤولين الإسرائيليين الذين يعجزون عن القيام بأي خطوة مضادة ضد "حماس" أمام "المحكمة الجنائية الدولية"، مع العلم أن "حماس" نفسها هي التي تسببت بالحرب على غزة عندما أخذت تطلق الصواريخ عشوائياً على بلدات في جنوب إسرائيل.

ومن أحد التأثيرات الناتجة عن هذه المقاربة الفلسطينية هو إظهار القادة الإسرائيليين بصورة المجرمين وتردّي العلاقة بين نتنياهو والرئيس عباس، فوضع رئيس الوزراء الإسرائيلي في الخانة نفسها مع الزعيم الصربي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش ليس أمراً يشجع على إقامة محادثات ودية، وثمة دلالات تشير أيضاً إلى ارتفاع عدد وزراء حزب الليكود الذين يريدون انهيار السلطة الفلسطينية، مع أن هذا العدد لا يشمل حتى الآن نتنياهو أو المهنيين الذين يتولون هذه القضية، وبغض النظر عن التفاصيل فإن العلاقات الهشة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية قد أصبحت للتو أسوأ بكثير.

الجمود بشأن غزة

إن خمول السلطة الفلسطينية يمس الوضع في غزة، حيث تخشى السلطة الفلسطينية أن أي خطوة تقدم عليها لن تصب سوى في مصلحة "حماس"؛ لذلك من المستبعد أن تدخل السلطة الفلسطينية غزة قبل خروج قوات "حماس" العسكرية منها، وفي الوقت الراهن، على حد قول أحد المسؤولين الفلسطينيين، "تريدنا حماس أن نؤدي ثلاث وظائف لمصلحتها: نكون لهم البواب، والصرّاف الآلي، ومتعهد البناء". بيد أن "حماس" لا تزال تحتفظ بسلاحها وبالتالي تقيّد السلطة الفلسطينية إلى حد كبير، حتى في الوقت الذي تتعرض فيه السلطة الفلسطينية للّوم بسبب عدم تقدم مساعي المصالحة الداخلية بين الفلسطينيين أو جهود إعادة الإعمار.

إنّ الجمود الحالي في غزة يثير تساؤلات أوسع نطاقاً، كالسؤال عمّا إذا كانت "حماس" قادرة على الالتزام بالقواعد وتحديداً قاعدة عدم استخدام السلاح، فتاريخها الدموي الذي تجلّى في العملية العنيفة التي شنتها "حماس" لطرد "فتح" من القطاع عام 2007، مصحوباً بكثير من التفجيرات الانتحارية، يضع مثل هذه الحصيلة في موضع الشك. وبالفعل، لقد استمر الوضع القائم إلى حد كبير حتى بعد الصخب الإعلامي الذي أحدثته المصالحة بين "فتح" و"حماس" في الربيع الماضي والاستقالة الرسمية لمسؤولي "حماس" من مناصبهم الحكومية.

وخلال الزيارة الأخيرة التي قام بها محمود عباس إلى القاهرة، حثّ الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الزعيم الفلسطيني على فرض سيطرة أكبر على غزة، إلا أن الرئيس عباس اعترض على ذلك، وفي الوقت نفسه، قامت مصر في الأول من فبراير بفرض حظر على "كتائب عز الدين القسام"، الجناح العسكري لحركة "حماس"، وصنفتها كمنظمة إرهابية بسبب دورها المزعوم في مقتل 33 مسؤولاً أمنياً مصرياً في سيناء في أكتوبر الماضي، وكذلك أقدمت مصر على جرف أكثر من ألف منزل على مساحة تمتد مسافة كيلومتر واحد من المنطقة العازلة على طول حدودها مع غزة.

وتساهم جميع هذه العوامل في زعزعة الاستقرار في غزة، حيث إن المظالم المتواصلة لا تزال تشمل عدم دفع رواتب الموظفين الحكوميين، ولا يُعرف ما إذا كان الوضع في الأراضي سينفجر الآن أو ما إذا كانت جروح حرب غزة لا تزال مفتوحة، فهذا الموضوع يلقى الكثير من التكهنات والفرضيات.

تتمثل مقاربة السلطة الفلسطينية اليوم بالاعتماد على الدعم الدولي في حملتها المطالبة بالشرعية القومية والمناهضة لإسرائيل، ففي غزة تتحيّن اللحظة التي تضعف فيها "حماس"، إلا أن هذا النهج لم يجدِ نفعه حتى الآن، وقد تزيد آمال التعاطي الإسرائيلي- الفلسطيني المباشر مع انتخاب حكومة جديدة في مارس، إلا أن النبرة التي تهيمن على الخطابات الفلسطينية تدل على عكس ذلك.

* ديفيد ماكوفسكي، باحث بارز في "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، حيث يدير مشروع عملية السلام في الشرق الأوسط. وشارك دنيس روس في كتابة Myths, Illusions, and Peace.