هل «العَلْمانية» معادية للإسلام؟
"العَلمانية" بفتح العين نسبة إلى "عَلْم" بمعنى "عالم" أي الدنيا، أي "الشأن الدنيوي" غير "الكنسي" تعرضت لتشويهين كبيرين عندنا: تشويه في نطقها، إذ قرأها كثيرون "عِلمانية" بكسر العين نسبة إلى العِلم وهي خطأ، وتشويه آخر أخطر وأكبر لحق بالمفهوم، إذ هو لدى الكثيرين يرادف "الكفر" و"الضلال". هناك جهتان مسؤولتان عن هذا التشويه:١- تجربة أتاتورك الذي فصل الدين عن الدولة، وكان مغالياً في عَلمانيته، فشنّ حرباً واسعة على الدين والتاريخ الإسلامي واللغة العربية والحجاب، وخلّف مرارات واسعة لدى المسلمين، وأضافت تجربتا: بورقيبة "تونس"، ورضا شاه "إيران"، المتطرفتان في العَلمانية نفوراً وكراهية أوسع.
٢- علماء الدين خصوصا تيارات الإسلام السياسي ومنظريها الذين نشطوا في تأليف الكتب ونشر الفتاوى، ووضع مناهج دراسية وتدريس مقرارات الثقافة الإسلامية بهدف التحذير من العَلمانية وتصويرها سلاح الغرب الأخطر في غزو المجتمعات الإسلامية وتغريبها، وفي تصوري أن هذا التشويه ردة فعل طبيعية لمن نصبوا أنفسهم حماة للدين والوطن من الغزو العَلماني، كما اقتضته سياسات الصراع السياسي بين الأنظمة والتنظيمات المعارضة لكسب الشارع السياسي. نحن اليوم في عالم متغير، وهناك إسراف في توظيف الدين في سوق السياسة، إذ أنتج إرهاباً ضارياً مدمراً للإنسان والمجتمعات والأوطان، وآن لنا أن نعيد الاعتبار والنظر في مفهوم "العلمانية" برؤية متحررة من هواجس ردات "الفعل" وإكراهات "الأدلجة" ومقتضيات "الصراعات السياسية"، فهل حقاً العلمانية "بالمطلق" معادية للإسلام؟ بداية "نحن لا نقول بالعلمانية كما تطبقها أوروبا، لأننا أولاً وآخراً مجتمعات ودول إسلامية، وديننا العظيم له في كل شأن من حياتنا ومجتمعاتنا كلمات هادية: سياسة واقتصاداً واجتماعاً وتربية وثقافة وتعاملاً وسلوكاً، لكنها كلمات لقواعد ومبادئ عامة، لا تقيد حركة المجتمع، ولا تعوق التطور والإبداع والإنتاج والتنمية، فنحن لا نقول بالعلمانية بالمطلق، لكننا مع الإفادة من العناصر الإيجابية في العلمانية، التي حققت للدول التي اعتمدتها ما تنعم به من أمن واستقرار وازدهار، وتفوق علمي ومعرفي وتقني وعسكري، ومعيشة كريمة، وجودة حياة.علينا أن نفيد من العلمانية في جوانب عديدة أراها لا تتعارض مع الإسلام، بل إن الإسلام يؤكدها ويعززها، وهي عناصر إيجابية ومهمة تساعدنا على تجاوز هوة التخلف، وهي:1- نحن مع العلمانية في تأكيدها "المواطنة" معياراً للحقوق والواجبات، بصرف النظر عن المعتقد والمذهب والجنس والطائفة.2- نحن مع العلمانية في تعزيزها "مركزية الفرد" في النظام السياسي والاجتماعي.3- نحن مع العلمانية في رفضها توظيف الدين أو المذهب لخدمة الأغراض السياسية. 4- نحن مع العلمانية في تحريم وتجريم استخدام المساجد ودور العبادة لترويج أجندة سياسية أو حزبية أو أيديولوجية.5- نحن مع العلمانية في "حياد الدولة" الديني المذهبي، بمعنى عدم انحياز الدولة إلى دين ضد دين أو مذهب ضد مذهب، إنما تعامل كل مكونات المجتمع على قدم المساواة، وليس معنى ذلك أن تتخلى الدولة الإسلامية عن دورها في الرعاية والإشراف على الشؤون الدينية، ونشر الفضائل وتزكية القيم، لكنها لا تصطنع "شرطة دينية" تسوق الناس كرها للمساجد، وتمنع خروج المرأة من غير نقاب، وتقيد حركتها بوجود محرم، وتعطل حركة الإنتاج والتنمية.6- نحن مع العلمانية في منع "تسلط المؤسسات والتنظيمات الدينية" ووصايتهما على الناس، وتوظيفهما للدين في خدمة مصالحهما ونفوذهما.7- نحن مع العلمانية في كسرها لاحتكار "علماء الدين" الفهم الديني وفرضه على الناس، في تصورنا أن القرآن الكريم يسر الفهم للناس جميعاً، وما يتفق عليه "الأكثرية" يكون تشريعاً ملزماً دون حاجة إلى فتاوى ووصاية.8- نحن مع العلمانية في تفريقها بين ما هو من مقتضيات السياسة المتغيرة، وما هو من ثوابت الدين، مصداقاً لـ"أنتم أعلم بأمور دنياكم".9- نحن مع العلمانية في فصلها بين الفضاءين: الديني والسياسي، وأنه ليس ثمة تعارض بين علاقة الفرد بخالقه، على أساس "الاختيار الديني الحر" وعلاقة الفرد بغيره من الأفراد في شأن التنظيم السياسي والاجتماعي، على أساس "العقد الاجتماعي الحر".10- نحن مع العلمانية التي تنادي بكسر تحالف السلطة السياسية، سواء بالتحالف مع التيارات السياسية الدينية أو بالمؤسسات الدينية، هذا التحالف الذي يكون عبر تبادل المصالح والاستئثار بالنفوذ، وهو ما كان سائداً عبر التاريخ الطويل للدولة الإسلامية ولا يزال مستمراً في العصر الحديث، وهو في رأيي "أساس البلاء".ختاماً: هذه العناصر العشرة أراها عناصر إيجابية في العَلمانية، وتشكل الأسس القوية لدولة مدنية حديثة لا تستبعد الدين بوصفه مرجعية عليا للدولة والمجتمع.* كاتب قطري