معارض متتالية في لندن اقتصرت في السنوات الأخيرة على مبدعين ثلاثة: ماتيس، تيرنر ورَمبرانت.
والسنوات الأخيرة للرسامين الكبار عادة ما كانت مصدر حيرة نقدية: هل أعطت شحنة خبرة روحية وتقنية للرسام، أم كانت مُنحدراً في كليهما؟ سبق أن كتبت عن ماتيس القص واللصق، واللعب البهيج بالورق الملون، في سنوات عجزه الأخيرة عن المشي. وما رأيته لعباً لدى ماتيس، أراه تأملاً بالغ الجدية لدى الإنكليزي تيرنر (1775 ـ 1851). فهذا المعرض الاستثنائي "في التيْت برِتِن"، والذي بعنوان "تيرنر في سنواته الأخيرة: اللوحة تنطلق حرةً"، يقتصر على السنوات الست عشرة الأخيرة من حياته. العشر الأولى الناشطة بالأسفار، والست الثانية المتعبة المريضة. وفيها يعزز تيرنر الموقفَ الذي يرى أن نتاج السنوات الأخيرة هو زبدة خبرة روحيةٍ وتقنية، وفيهما لا يكل عن الاكتشاف، في تقنية اللون، وفي الرؤى التي جعلت أحد نقاده يصفها بـ"الألغاز العجيبة".معظم نقاد تلك المرحلة المتأخرة لم يكن مرتاحاً من لوحة تيرنر التي كانت مصدر سخريته أكثر الأحيان، وكأنها وليدة "عين مريضة وأصابع طائشة". حتى أن الناقد الشهير راسْكِن، الذي كان شديد الحماس له، اعتقد أن لوحة مرحلته الأخير إنما "هي وليد مرض عقلي".وما رأيته هو ألغاز عجيبة، ولكن ليست محيرة. فغمرة الاستغراق المتطرف بالضوء، ومن ثم اللون، لدى تيرنر، منذ بدأ الرسم، لابد أن تصل برؤى هذا الفنان إلى التجريد.هذه المسيرة ألهمت الانطباعيين مع نهاية القرن التاسع عشر، فأصبح لهم رائداً. كما ألهمت تجريديي الحداثة في القرن العشرين فلم يقل ريادة.الدرس الأول مع الانطباعيين تمثل بتماهي الخطوط مع اللون. لقد تلاشت في لوحته الخطوط المعتادة التي تفصل كتل الأشكال والألوان عن بعض، فالسحب والسماء، والأفق والبحر، والشمس وانعكاسها في الماء، تكاد تتوالد من بعض. ولكن ثمة فارقا جوهريا يميزه عن الانطباعيين الآتين، هو أن ما يسعى إليه إنما هو التعبير عن قوى الروح الكامنة في العالم، لا الاكتفاء بتسجيل الانطباعات البصرية. أما الدرس الأول مع التجريديين فيتمثل في الاستغراق باللون. المعرض يبدأ مع 1835 حين كان تيرنر في الستين من العمر، أولى خطوات الشيخوخة، والتوق الغريب لمزيد من خبرة الروح. فتجول، بصحبة دفتر تخطيطاته، في كل أوربا بوسائل النقل المُتاحة، أو على القدمين، إن لم تتوافر. الضوء في هذه المرحلة يعزز من وجود الطبيعة وأشيائها. ولكن هذا الضوء مع السنوات يبدأ سطوته التدريجية، حتى تصبح مُطلقة، فيلاشي حدود الأشياء تماما: ضوء وانعكاساته في الطبيعة، ولكن على هيئة لون لا يقل إضاءة.إن مسار لوحاته في مرحلته الأخيرة هذه عبارة عن توق باتجاه التلاشي، بحيث لا يبقي من الحياة والأحياء والطبيعة غير ضباب وفراغ من الضوء واللون. إنه يختلف عن نزعة التجريد الحديثة بعمق تعلقه بالطبيعة وهي في عز جبروتها وعنفها (العاصفة، المطر، البحر، الضباب..)، وبالشمس التي تكشف عن كل ظواهرها. وما اللون والتشكيل إلا وسيلة لذلك. في حين لا يكشف اللون والتشكيل في الفن التجريدي إلا سر اللون والتشكيل ذاتهما. حتى الشخوص التي يرسمها، مستوحاةً من القصص الدينية، التاريخية أو الأسطورية لا تختلف في رؤيتها غائمة أو توشك على التلاشي عن أشياء الطبيعة ذاتها. فالملاك بجناحيه لا يكاد يأخذ شكلا بصريا إلا بالكاد، وكذلك آلهة وأبطال الحكايات اليونانية: "أبولو، ميركوري، ديفني، آريادنا. توثيق الحكاية لا يعنيه بقدر ما يعنيه فرصة التأمل التي يوفرها اللون. تيرنر لم يكن بارعاً مع ألوان الزيت على الكانفس فقط، بل كان مولعا بالألوان المائية، مبرزا فيها. والمعرض قدّم عددا منها، إلى جانب عدد من دفاتر تخطيطاته. وخارج عرض "التيْت مودِرْن" هناك وعد من سينمات لندن بعرض الفيلم الجديد عن حياته، بعنوان "السيد تيرنر" (قرابة ساعتين ونصف الساعة)، للمخرج البريطاني مايك لي وبطولة تيموثي سبال، الذي حاز فيه جائزة أحسن ممثل في مهرجان كان 2014. وأنا في انتظار مشاهدته.
توابل - ثقافات
تيرنر: اللوحة تنطلق حرة
23-10-2014