رفيق علي أحمد في «وحشة»: تعرية فجّة لواقع أليم
لأنه ملتزم بقضايا الإنسان وبوجع الإنسان النازف باستمرار من الأزمات التي تتراكم سنة بعد سنة ويتوارثها الأبناء عن الأجداد، عاد رفيق علي أحمد إلى خشبة المسرح، بعد غياب نحو خمس سنوات، في مسرحية {وحشة} (مسرح مونو الأشرفية في بيروت)، مترجماً فيها وحشة البشر في عالم تتسارع فيه الأحداث والمشاهد التي يُقحَمُ فيها المواطن في هذه المنطقة من العالم، من دون قصد منه، أحياناً، وتحت شعارات رنانة تحمل بريقاً زائفاً لا يلبث أن يكشف عن حقيقة أكثر مرارة وخيبة من الواقع الذي يعيشه.
لم يأبه رفيق علي أحمد كثيراً بالسياسيين في مسرحيته الجديدة {وحشة}، بل وجه، من خلال شخصياته التي تقمصها، نقداً للمواطن المنجرف وراء التيارات والألوان، والأحلام المستحيلة والشعارات الجوفاء، تارة تحت مسمى اجتماعي وطوراً تحت مسمى سياسي... وجميعها توصله إلى وحشة وغربة عن الذات والأرض وترميه في مصير مجهول وغد مخيف.في {وحشة}، يطرح رفيق علي أحمد الصوت عالياً معبراً عن سخطه من الكلفة العالية التي يدفعها المواطن نتيجة الأوضاع المتدهورة في لبنان والمنطقة العربية، أقلها التشرد والتهجير والضياع والاقتلاع من الأرض والهوية. ومع أنه على يقين بأن الكلام لم يعد يجدي نفعاً، لا سيما في لبنان، وبأن السياسيين سرقوا هواجس الناس وباتوا يتكلمون بها وينسبونها إليهم، إلا أنه أراد أن ينقل على المسرح وعلناً الحوار الخفي الذي يدور بين المواطن وبين نفسه، علّه ينفذ إلى آذان من يجب أن يسمعوه.
لغز أبو ميشالالبطل الرئيس في المسرحية هو {أبو ميشال}، متسوّل تفتحت عينا رفيق علي أحمد عليه في منطقة النبطية، وطبع طفولته وشبابه بصور حول معاناته من التشرد والبرد والجوع، لكن في تقمصه شخصيته لم يلبسه أي ثوب طائفي أو سياسي، إنما بقي طوال المسرحية هو هو، «الناس بيسموه أبو ميشال.. وهوي بيقول: مش مهم شو ما كان اسمي: محمد، جورج، سمعان، علي أو عثمان..ضاقت به الحياة، قهره واقع العيش، هاجر أولاده قسراً، ومما زاد بالطين بلة خيانة زوجته وظلمها. فاضت به أحزانه... انزوى في شارع من شوارع المدينة وأغمض عينيه عن كل ما حوله... فانفتحت عين ثالثة في عقله وقلبه، راقب من خلالها الناس فحكى سيرته وحال هذا البلد}.البطل الثاني في المسرحية هو متسوّل شارع {بلس} في الحمرا الذي توفي في ليلة عاصفة على الرصيف، ونسجت حوله حكايات وحكايات، منها أنه كان أستاذاً في الجامعة الأميركية في بيروت، قست عليه الظروف وأوصلته إلى هذا الدرك، وطالما التقاه رفيق علي أحمد خلال تجواله في هذا الشارع، فتكلم على لسانه، وتصوّر ما كان يمكن أن يقول كمواطن لبناني مات من البرد والجوع...من المتعارف عليه أن المونودراما، عموماً، تتناول حكاية الممثل الذي يقدمها، فيما في مسرح رفيق علي أحمد المونودرامي، تتتالى الصور من المجتمع مازجة بين تجاربه وتجارب الناس من حوله عبر مجموعة من الحكايات (حوالى 25)، يربطها خيط درامي واحد هو الوجع...باختصار هذه المونودراما مرآة تعكس الواقع كما هو من دون روتوش، وهي كوميديا سوداء يمتزج فيها الضحك مع الغصة، أي تراجيديا كوميدية، يضحك رفيق علي أحمد فيها على نفسه، وتبدو وجوه الشخصيات التي يتقمصها حزينة يلفحها الغبار.توعية الشباب في مسرحيته، يتوجه رفيق علي أحمد إلى الشباب، عله يوعيهم كي لا يقعوا في أخطاء أهاليهم الذين عاشوا الحرب في لبنان وذاقوا الأمرين منها ووقعوا تحت براثن الطائفية والتعصب، مع ذلك لم يتعظوا وأورثوا هذه الآفة إلى أولادهم المكبلين بدورهم بالشحن الطائفي والمسجونين وراء قضبان الشعارات الرنانة الفارغة ومصادرة الألوان وتسييسها، رافعاً الصوت عالياً بأن الصيغة المتبعة حالياً والمتوارثة منذ أجيال وأجيال لا تبني وطناً على وسع حلم الشباب، بل تؤدي إلى ضياع الأرض والهوية والانتماء، ومحذراً من وسائل التواصل الاجتماعي التي هي برأيه وسائل {التفاصل} الاجتماعي، ومن الشحن في الخطاب الطائفي الذي تمارسه الفضائيات، وضياع الهوية في ظل الانقسام العمودي والأفقي في المجتمع.لا يحتاج رفيق علي أحمد في مسرحيته إلى ديكور وإضاءة مبهرة، بل حضوره القوي وحواره الثاقب وحركته وتعابير وجهه وانفعالاته مع الكلمة والموقف... كلها عناصر ملأت فضاء المسرح وجعلته ينبض بقوة مع هذه الحكاية أو تلك، ولم يشعر الجمهور الحاضر بالحاجة إلى ما يشتت انتباهه عن الممثل الوحيد الواقف أمامه والذي اكتفى بوجود مقعدين على المسرح، ولا عجب في ذلك، فقد اعتاد رفيق علي أحمد تقديم مسرحياته برصانة ومصداقية بعيدة عن التجارة، فتسلي الجمهور وتبكيه في آن.يعتب رفيق علي أحمد على الشعب اللبناني لأنه لم يتعلم من التاريخ، وعلى الأحزاب الطائفية التي تدعي العلمانية، فيما تمارس في الواقع الشحن الطائفي، ما يجعله يخشى من ضياع الأمل ببناء وطن يتساوى فيه أبناؤه بالحقوق والواجبات، أما الحل بالنسبة إليه، فهو إعادة وضع دستور مدني لا مكان للطائفية فيه...مسيرة حافلة منذ قرر ترك بلدته يحمر في جنوب لبنان والانتقال إلى بيروت، للتخصص الجامعي، اختار رفيق علي أحمد معهد الفنون التابع للجامعة اللبنانية وجهته، وانخرط فيه وتخرج مؤلفاً مخرجاً وممثلاً (1981)، من ثم وضع عينه على المسرح لأنه وجد فيه أدواته التي يتقنها، متخذاً من المونودراما وسيلة تعبير، فكانت مسرحيات: «أيام الخيام»، «الجرس»، «جرصة»، «المفتاح»، {زواريب، «قطع وصل» وغيرها...صحيح أن رفيق علي أحمد تربى في طفولته على المسرح الرحباني إلا أنه لم يتوقع يوماً أن يقف على خشبته مجسداً شخصيات عظيمة تاريخية وأدبية وسياسية في مسرحيات: «آخر أيام سقراط، حكم الرعيان، جبران والنبي»، فشكلت هذه الخطوات نقلة نوعية في مسيرته الفنية، لا سيما أنها أفسحت في المجال أمامه للتعاون مع {الكبير} منصور الرحباني.للدراما التلفزيونية حيز في مسيرة رفيق علي أحمد، ومع أنه يعتبر أن فيها ثرثرة وتجارة، إلا أنه يخوضها عندما لا يكون لديه انشغال في المسرح ولضرورة الاستمرار أحياناً، ومن أبرز مشاركاته: {جذور} (2013)، {نكدب لو قلنا ما بنحبش} (2013)، {الشحرورة} (2011)، {القعقاع بن عمرو التميمي} بدور خالد بن الوليد (2010)، {الظاهر بيبرس} بدور فارس الدين أقطاي (2005)، {أبو الطيب المتنبي} بدور سيف الدولة الحمداني، {الزير سالم} بدور كليب بن ربيعة (2000).في السينما شارك كضيف شرف في فيلم {زهايمر} مع عادل إمام، وأدى دور العباس في {الخوافي والقوادم في نصرة الإسلام} مع باسم ياخور بدور حمزة...مارس رفيق علي أحمد العمل النقابي من خلال ترؤسه نقابة ممثلي المسرح والتلفزيون والسينما في لبنان، وناضل لانتزاع حقوق الممثلين في التقديمات الاجتماعية وخصوصاً الصحية، على غرار باقي الموظفين، وترأس لجان تحكيم مهرجانات مسرحية عربية.