يسأل المذيع مفتول العضلات، وكأنه في صالة {جيم} وليس في بلاتوه تصوير برنامج تلفزيوني، ضيفته الممثلة: {هذا الاستياء من الألفاظ الخادشة التي تخللت الفيلم الذي قمت ببطولته وعُرض متأخراً، ما سببه؟}. تعلق الممثلة بحدة: {أين هي هذه الألفاظ؟}. وبسهولة مدهشة، وكأنه مُدرب على إلقاء الأسئلة فقط، يتجاهل تعليقها ويبادرها بالسؤال التالي: {... ولماذا لجأتم إلى المشاهد الهابطة التي نفرت الجمهور من الفيلم؟}. وبالحدة نفسها تعاجله الممثلة: {فيلمنا نظيف ويخلو من أي مشهد واحد هابط}!
هذا الحوار أنموذج للحوارات الركيكة والمستفزة التي تمتلئ بها برامج السينما، والفن بوجه عام، في القنوات العامة والمتخصصة، وتصدمنا بين الحين والآخر بسبب ضعف محتواها، وسطحية أسئلتها، والشكل التافه التي تطالعنا به على الشاشة. فالمذيع سالف الذكر، ومثله آلاف المذيعين والمذيعات في مئات الفضائيات، لم يكلف نفسه عناء مشاهدة الفيلم، وآثر الاكتفاء بما أملاه عليه {المعد}، الذي تبين أيضاً أنه لم يشاهد الفيلم، وبالتالي أطلقا العنان للممثلة كي تتلاعب بهما، وبالبرنامج، كيفما شاءت، فمن حقها أن تستنكر وجود ألفاظ خادشة، ومشاهد هابطة، لكن {المذيع} النابه، ووراءه {المعد} اليقظ، عليهما مواجهتها بقائمة الألفاظ والمشاهد التي تضمنها الفيلم بالفعل، وإلا فما الفائدة من توجيه السؤال؟ وكيف ارتضيا، ومعهما المخرج، لأنفسهم أن يتركوا لها الحبل على الغارب بحيث تضع ساقاً على ساق وهي ترد على الأسئلة، التي أدركت تفاهتها، وأيقنت أنها صاحبة اليد الطولى في البرنامج!إنه الجهل المتفشي في مثل هذه النوعية من البرامج، التي تعاني ندرة المتخصصين، وغياب المخلصين، وسيطرة الدخلاء الذين يتصورون أن إعداد وتقديم برامج السينما {أسهل من شكة الدبوس}، ومن ثم تدهورت الأحوال، وتراجعت الأمور، ووصلت إلى الدرجة التي تستضيف فيها قناة متخصصة في السينما ملحناً ومطرباً بوصفه {نجم اليوم} بينما تبث قناة أخرى خبراً عن مخرج عالمي انتهى من تصوير فيلمه الجديد، والكل يعلم - إلا القناة – أن الموت غيبه منذ قرابة الأشهر!يُرجع البعض التدهور الحاصل في مجال إعداد البرامج التلفزيونية المعنية بفن السينما، مقارنة بالطفرة التي شهدتها حقبة السبعينيات من القرن الماضي على أيدي نقاد وإعلاميين كبار مثل: يوسف شريف رزق الله، سامي السلاموني، درية شرف الدين، محمد قناوي، سلمى الشماع، أحمد صالح، رؤوف توفيق وعلي أبو شادي... وغيرهم، إلى ما يمكن تسميته {عوامل التعرية الثقافية}، في حين يتجاهلون - أو يجهلون – سبباً آخر أكثر أهمية يتمثل في البعدين الاقتصادي والحضاري. فالنظرة تبدلت بشكل جذري مخيف، وأصبح القيمون على القنوات ينظرون إلى برامج السينما بوصفها أداة لتكريس صورة {الفن الرخيص}، وفي أفضل الأحوال {جلسات نميمة} تُرضي غرور {التافهين} أو بديل مرئي للصحافة الصفراء أو {صحف التابلويد} الفضائحية. وتبعاً لهذه النظرة المتدنية، تضاءلت الموازنات المرصودة من القنوات الفضائية للبرامج المتخصصة في تقديم السينما، واتسعت مساحة السطحية على حساب رقعة الثقافة السينمائية التي ضاقت كثيراً، وبدلاً من أن تصبح برامج السينما، عبر الفضائيات، منبراً للتنوير، ووسيلة للتوعية بدور ورسالة وأهمية السينما، فقدت جدواها، وتحولت إلى سلاح ناجع في أيدي المتطرفين، بل جملة رئيسة في الخطاب التحريضي الداعي إلى تعميق الشعور العام بأن {الفن حرام}، وأنه المسؤول عن إشاعة الفسق والفجور في المجتمع!سبب آخر للأزمة يكمن في مذيعي ومقدمي برامج السينما، ممن اهتموا بارتياد صالات ألعاب اللياقة البدنية {الجيم} لتربية عضلاتهم بأكثر مما حرصوا على ارتياد المكتبات، التي تصقل عقولهم، أو شراء الكتب والمراجع، التي توسع مداركهم، وتعينهم على أداء رسالتهم بنجاح، وأسهم في تفاقم الأزمة أن ثمة من تصور أن تقديم برامج السينما {مهنة من لا مهنة له}، وأنها لا تحتاج إلى مؤهلات، مثل الثقافة أو التخصص، وإنما يكفي المذيعة أن تكون ممشوقة القوام، ناهدة الصدر، باسمةُ الثغر كبيرة الردفين بينما يُشترط في المذيع أن يكون وسيماً، ذو شعر أصفر، وعينان خضراوان، ويرطن العربية بلكنة أجنبية!اللافت أن تراجع الدور الذي تؤديه برامج الثقافة السينمائية في القنوات التلفزيونية تزامن مع الانهيار الكبير الذي اجتاح قصور الثقافة في المحافظات المصرية، وكان سبباً في تحول الغالبية منها إلى خرابات ينعق فيها البوم بينما نجح الباقي منها في أن يُصبح عنصراً طارداً للجمهور من محبي السينما، والطامعين في جرعة من الثقافة السينمائية، وكلنا يذكر الفترة التي دأبت قصور الثقافة خلالها على فتح أبوابها على مصاريعها أمام الفيلم الهندي وأفلام «الكونغ فو» و»الكاراتيه» قبل أن تُغلق تماماً، ومن بقيّ منها ألغى السينما من أنشطته، وكأنها «رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ»!
توابل - سيما
فجر يوم جديد: {مفتول العضلات}!
29-05-2015