رحيل غونتر غراس قارع الطبول ومؤسس الأدب الألماني الحديث

نشر في 14-04-2015 | 00:01
آخر تحديث 14-04-2015 | 00:01
حائز «نوبل» انخرط في جدالات حول قضايا سياسية واجتماعية
لقي نبأ وفاة غونتر غراس، «مؤسس الأدب الألماني الحديث»، ردود فعل مفعمة بالأسى والحزن محلياً وعالمياً، عبّرت عن فقدان الأدب الألماني واحداً من أهم رواده المعاصرين.

توفى الأديب الألماني الشهير الحائز جائزة نوبل في الأدب غونتر غراس أمس عن عمر يناهز 88 عاما، حسبما أعلنت دار نشر «شتايدل» في مدينة جوتينجن الألمانية.

ويعتبر غراس من أهم الأدباء الألمان المعاصرين، حتى إنه وصف بـ «مؤسس الأدب الألماني لحقبة ما بعد الحرب»، وكانت روايته الأولى التي حملت عنوان «طبل الصفيح» حققت نجاحا على المستوى العالمي عقب نشرها عام 1959، وبعدها بأربعين عاماً حصل غراس على «نوبل» للأدب عن مجمل أعماله.

 انخرط غراس في جدالات حول قضايا سياسية- اجتماعية، حيث دعم سياسة التصالح مع بولندا للمستشار الألماني الأسبق فيلي برانت، كما دعم المعارك الانتخابية للحزب الاشتراكي الديمقراطي، فضلاً عن إثارته مناقشات جدلية، بوقوفه ضد الحرب التي شنها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش على العراق، ليختتم هذه السلسلة من إثارة الجدل حوله بتأليفه قصيدة ناقدة لإسرائيل عام 2012.

ومن أعماله الشهيرة «ثلاثية دانتسيش» التي نشرت في مطلع ستينيات القرن الماضي، والتي تضم إلى جانب رواية «طبل الصفيح»، روايتي «القطة والفأر» (1961) و«سنوات الكلاب» (1963)، وبعد ذلك بنصف قرن كتب «ثلاثية الذكريات»، والتي تضم ثلاثة كتب سيرة ذاتية بعناوين «تقشير البصلة» (2006) و«الصندوق» (2008) و«كلمات جريم» (2010).

لمحات من حياته

وُلِد غراس في 16 أكتوبر 1927، وشارك عام 1944 في الحرب العالمية الثانية كمساعد في سلاح الطيران الألماني، وبعد انتهاء الحرب وقع سنة 1946 في أسر القوات الأميركية إلى أن أطلق سراحه في العام ذاته.

بدأ حياته الأدبية كشاعر، وأصدر ديوانه الأول بعنوان «مزايا دجاج الريح» عام 1956، ثم توسعت مداركه الأدبية ومارس أنواع الكتابة المختلفة، وبرغم شهرته الروائية الكبيرة، ظل حضوره الشعري بارزاً في ألمانيا، كما ظل دائما مثيرا للجدل في حياته، إذ بعد حصوله على «نوبل»، اعترف بأنه كان واحدا من المجندين في جيش ألمانيا النازي، ما عرضه لهجوم من قبل كتاب ونقاد ومؤرخين وسياسيين، حتى دعا بعضهم إلى تجريده من الجائزة، غير أن مؤسسة «نوبل» أعلنت عدم سحبها منه.

وفي أبريل 2012، تعرض غونتر لموجة انتقادات بعد نشره قصيدة نثرية بعنوان «ما ينبغي أن يقال» قال فيها إن إسرائيل من خلال تحضيراتها لضرب المنشآت النووية في إيران تمثل تهديداً للسلام العالمي، ولدرء هذا التهديد يجب التكلم الآن، معلناً أنه سئم نفاق الغرب في ما يتعلق بإسرائيل، وأن أهوال النازية ليست ذريعة للصمت، فضلاً عن انتقاده لبلده ألمانيا لبيعها غواصات يمكن تجهيزها بأسلحة نووية إلى إسرائيل، وكانت النتيجة أن شنت بعض وسائل الإعلام الألمانية، حملة عليه تتهمه بمعاداة السامية.

أصداء الرحيل

ولقي نبأ رحيل غراس، ردود فعل محلية وعالمية مفعمة بالأسى والحزن، حيث وصفته صحيفة دير شبيغل بأنه «مؤسس الأدب الألماني لحقبة ما بعد الحرب»، كما حيا الرئيس الألماني يواخيم غاوك ذكرى الكاتب الذي كان «مرآة لبلدنا» و«جزءاً لا يمحى من تراثها الفني والأدبي»، مضيفاً أن في روايات غراس وقصائده «تكمن الآمال الكبرى والاخطاء، والمخاوف والتمنيات لكل الأجيال».

وأعرب رئيس أكاديمية برلين للفنون، كلاوس شتيك، عن صدمته، قائلا: «بوفاة غراس فقد العالم الأدبي مؤلفا فصيحا، وفقدت جمهوريتنا مواطنا باسلا». وتابع: «إنني شخصياً فقدت صديقاً صاحب موقف، وكان يمكن الاعتماد عليه دائما في النواحي السياسية، وكذلك في النواحي العملية»، مؤكداً أنه سوف يفتقده كثيرا.

وبينما أعرب برند زاكسه عمدة مدينة لوبيك، التي ينحدر منها غراس، عن صدمته العميقة حيال وفاة الأديب الألماني البارز، اعتبر أنها «خسارة هائلة لمدينة لوبيك وللأدب الألماني والعالمي كله»، معرباً عن خالص تعاطفه مع زوجته وأسرته.

وفي السياق، قال مدير متحف «غونتر غراس» الأدبي بمدينة لوبيك، يورغ فيليب تومسه: «إننا ممتنون للكثير من المعايشات التي سمح لنا بمشاركتها معه».

ومن خارج ألمانيا، أعرب الروائي المجري العالمي الحائز جائزة نوبل للأدب، ايمري كيرتيش، عن حزنه لوفاة صديقه ورفيقه غراس، مضيفاً: «لم نكن نعمل في نفس الموضوع، ولكننا كنا أصدقاء وكنا كلانا يقدر الآخر».

«ما ينبغي أن يقال»

كتب الراحل قصيدة بعنوان «ما ينبغي أن يقال»، تتناول الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط، وهذه مقاطع منتقاة منها:

لماذا أمنع نفسي من تسمية ذلك البلد الآخر/ الذي يمتلك ومنذ سنوات -رغم السرية المفروضة- قدرات نووية متنامية، لكن خارج نطاق السيطرة، لأنه لا توجد إمكانية لإجراء مراقبة.

السكوت العام عن هذا الواقع/ الذي انطوى تحته صمتي، أحسه الآن كذبة تثقلني وإلزاماً، في الأفق تلوح عقوبة لمن يتجاهلهما؛

الحكم المألوف: «معاداة السامية».

لكن اليوم، لأن من بلدي، وهو الملاحق مرة إثر أخرى

بجرائم لا نظير لها، من جديد ومن أجل تجارة محضة

توصف بكلمة عجلى: تعويض فحسب.

من بلدي هذا ينبغي أن تسلم غواصة أخرى

إلى إسرائيل/ تكمن قدرتها في توجيه رؤوس الدمار الشامل

إلى هناك، حيث لا دليل على وجود/ قنبلة نووية واحدة

لكن الخشية تريد أخذ مكان قوة الدليل،

ولهذا أقول ما ينبغي أن يُقال.

لكن لماذا صمتُ حتى الآن؟

لأني اعتقدت أن أصلي/ المدان بجرائم لا يمكن أبداً التسامح فيها

منع من مواجهة دولة إسرائيل، بهذا الواقع كحقيقة واضحة،

إسرائيل التي أتضامن معها وأريد أن أبقى كذلك.

لماذا أقول الآن فقط/ كبيراً في السن، وبآخر قطرة حبر:

إن القوة النووية إسرائيل خطر على السلام العالمي

الهش بطبيعته؟

لأنه ينبغي أن يُقال، قبل أن يفوت أوان قوله غداً:

وكذلك لأننا نحن -الألمان مثقلون بما يكفي-

يمكن أن نصبح مزوديِن بجريمة

يمكن توقعها، ولهذا قد لا يمكن التكفير

عن اشتراكنا في الذنب ساعتها

بكل الأعذار المعتادة (...).

لمحات من مشواره الطويل المفعم بالانتصارات والإخفاقات

شكل الأديب الألماني غونتر غراس ضمير اليسار الألماني في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، محملا بشدة على إخفاقات طبقتها السياسية في مواجهة النازية التي اقر متأخرا بخدمته كجندي في صفوفها خلال شبابه.

وبصورته كمتمرد مدخن للغليون وشنبه العريض ونظاراته الكبيرة الموضوعة على انفه، طبع غراس، رفيق درب الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الساحة الادبية والفكرية لألمانيا الغربية.

ووصف غراس، الذي كان ايضا شاعرا وكاتبا دراميا ورساما، أسلوبه الادبي، وقال انه بعد الحرب العالمية الثانية «ترافقت طبيعتي المرحة مع روحية تشكيك لا يمكن تجاوزها. تمخض ذلك عن مقاومة وفي كثير من الاحيان ايضا ميل للهجوم على اي عقيدة تدعي تحديد معايير مطلقة».

الا ان سمعة غراس تلطخت سنة 2006 بسبب اعترافاته المتأخرة في سيرته الذاتية التي حملت عنوان «قبو البصل»، بشأن انضوائه سنة 1944 في صفوف القوات الخاصة النازية. وقد عاب عليه كثيرون حينها صمته المطبق لسنوات طويلة، خصوصا لكونه كاتبا المانيا متنورا ندد بشدة بالتنازلات التي قدمها جيله، ما اجج مشاعر حقد كبيرة ضده.

وشرح ان التحاقه في سن السابعة عشرة بالشبيبة النازية جاء لكونه في تلك الفترة شابا متحدرا من اوساط متواضعة كان يريد محاربة الشيوعية.

وكان يرغب في الانضمام الى وحدة الغواصين، لكن بسبب عدم اختياره هذه المهمة وجد نفسه لفترة قصيرة عنصرا في وحدات القوات الخاصة النازية التي شهد تفكيكها. وقد علم بحصول المحرقة عندما كان في الاسر.

وبعد سقوط نظام هتلر، عاش غراس هائما لسنوات في المانيا المدمرة جراء الحرب العالمية الثانية، ثم شهد على معجزة إعادة الاعمار في جمهورية فدرالية رأسمالية معادية للشيوعية.

وبعد دراسته النحت، انتقل للعيش في باريس في خمسينيات القرن الماضي، حيث قرر إطلاق مسيرته ككاتب. والتزم الكتابة الى جانب الروائيين المعادين للفاشية في «المجموعة 47» (مجموعة كتاب باللغة الالمانية نشطوا في العقدين اللذين اعقبا انتهاء الحرب العالمية الثانية) كذلك مع المستشار الالماني السابق الاشتراكي الديمقراطي فيلي برانت.

وفي ألمانيا التي استعادت ازدهارها في الستينيات وشهدت الاحتجاجات الطلابية، ثم مرحلة هجمات جماعة الجيش الاحمر اليسارية، سعى غراس لتقديم صورة كاتب رافض للنظام العام لكن ضمن منحى اصلاحي.

وفي 1993، قام الكاتب والمفكر الالماني بخروج مدو من الحزب الاشتراكي الديمقراطي بعد اكثر من عقد على انضمامه اليه سنة 1982، على خلفية رفضه مواقف الحزب التي اعتبرها محافظة جدا. الا ان هذا الوضع لم يحل دون دعمه سنة 1988 للمستشار السابق غيرهارد شرودر المنتمي الى الحزب الاشتراكي الديمقراطي.

وعندما نشر سنة 1995 رواية «القصة كاملة» التي انتقد فيها توحيد المانيا، حملت صحيفة بيلد الواسعة الانتشار على غراس متهمة اياه بأنه «لا يحب بلده».

تحذير من حروب جديدة مختلفة

أعرب الأديب الألماني، في آخر تصريحات، عن مخاوفه إزاء انجراف العالم إلى نوع جديد من الحروب.

وقال غراس في تقارير إعلامية، «نسمع في الفترة الأخيرة تحذيرات متكررة من حرب عالمية ثالثة، أتساءل أحيانا ما إذا لم تكن تلك الحرب قد بدأت بالفعل بطريقة مختلفة تماما عما عهدناه في الحربين العالميتين الأولى والثانية».

وأشار عميد الأدباء الألمان إلى أن أشكالا جديدة من الحروب قد تطورت حاليا، مضيفا انه يمكن عبر الإنترنت وحده عرقلة أنظمة وإدارة حروب اقتصادية، «وهذا يحدث بالتوازي مع نزاعات حربية تقليدية، مثل التي نشهدها في أوكرانيا وسورية وأماكن أخرى».

ولا يتوقع غراس استمرار اتفاقية سلام مينسك بشأن النزاع في شرق أوكرانيا، قائلا: «لا أعتقد أن تلك الاتفاقية ستؤدي إلى سلام، لأن لدي انطباعا بأن أوكرانيا وروسيا ليس لديهما تحكم كامل في القوات المستخدمة».

back to top