عند باب {سرجونيات} يقف صاحب المقدمة {حسن حمادة} دليلاً، يمنح كل قارئ بوصلة تساعده في رصد الاتجاهات الفكريّة السرجونيّة، ويرسم رسمًا تقريبيًا لسرجون: {جلالة الصدق، سيّد الرأي، فارس الحوارات، ميزان الوضوح}. ويرى حمادة أن القراءة تكون رحلة تحوّلات، باعتبار الكاتب صاحب كوكب جديد: {هنا كوكب سرجون القنطار}، وصاحب قدرة على التعديل في العمود الفقري للقيم والمفاهيم: {إنها لحظات، وتتغيّر معها أشياء، تولَد عناصر، تصطرع قيم، تنهار مفاهيم، ويكتمل العبور بسرعة قصوى أسرع من الصوت من الضوء من البرق}.

Ad

يحاول القنطار في استهلال بوحه أن يعقد صلحًا مع الله، فيعترف بأنَّ الله حاجة انسانية في حين أنَّ الانسان لا يرقى إلى أن يكون حاجة إلهيّة: {إنَّ الانسان هو الذي يحتاج الله في حياته}. ويعطي الانسان تاج الحرّية وصولجانها، فهو سيّد حياته اليومية، أمّا الحياة الوجودية فتكون برعاية السماء: {أنت إله حياتك اليومية. والله إله حياتك الوجودية.} ويعتقد القنطار بأنَّ الله ملأ الحياة والوجود بكلِّ ما تدلُّ عليه يد الحلم البشريّ، وما على العطشان إلاّ أن يمسك بضوء النجمة التي تقوده إلى مغارة الماء: كلّ ما تفكرّ به في الحياة.../ وكل ما تحلم به هو موجود حتمًا في هذا العالم بكميّات مختلفة... المسألة تتعلّقُ فقط بأن تجده.

     وبين بوحٍ وآخر يتجلّى القنطارُ فارسًا من فرسان السماء، وفيًّا لأزرقها على شجاعة وحريّة لا تمنعانه من أن يكون هو، هو المختلف، هو صاحب الشّباك الخاص الذي يطلُّ منه على حدائق الحقيقة التي تشبه وجعَهُ الوجودي. فالقنطار لا يرضى إلا بما يملأه ويلائم شهيّته إلى كل جديد مضرّجٍ بالثورة، وها هو قبالة صورة السيد المسيح مأخوذ بما فيه من ريح: {إذا ما نظرت الى المسيح، إيّاكَ أن تراه وجهَ رجلٍ في صورةٍ صامتة.../ يجب عليك أن تراه.../ شعره يتبعثر على جبينه، ورجولته تخطب بحواسك، وتطمئنها أنّك ما زلت حيًّا حتى الآن}.

     وعلى شرفة المرأة، يجلس سرجون طويلاً، مستعينًا بكلِّ ما فيه من عقلٍ وقلبٍ ليقول المرأة على طريقته. فهي اللغز، وهي إناء لسرّ يزور الحياة ويتركها سرًّا، لأنّه إذا انكسر وتعرّى في ساحة الحقيقة حملت الحياة نفسها إلى نهايتها: {عندما ينفكّ لغز المرأة في الحياة، تنتفي ضرورة استمرارية هذه الحياة}. ولا يفوت القنطار أن يرفع معها عباءة الظلم عن كتفيها، معترفًا بجريمة الرجل حين حرّض ذكوريّته على اضطهاد الأنوثة، معلنًا أن الله هو العدالة التي ستنصف المرأة أبدًا: {لن يغفر الله أبدًا لجريمة الذكورية الأبدية بحق المرأة}. وينحني القنطار للحياة، ممجِّدًا الصورة الأبهى للمرأة، وهي صورة المرأة الحامل، لأنَّ في ظلِّ رحمها تنمو الحريّة، ويولدُ قفير الفرح، ويكون الجمال جنينًا في جنين: {المرأة الحامل هي أرقى وأجمل وأجذب مظهر للمرأة، وأكثر مشاهد الحياة تحفيزًا للحياة والحرّية والفرح والجمال}.

مروحة واسعة

     وتكبر مروحة مواضيع القنطار. ويزداد الإبحار في اتجاه الحقيقة نزقًا، رغم أنه يعرف معرفة اليقين أن الحقيقة هي للبحث عنها فقط وليس للعثور على مفتاح بابها الذهب: {تذكّر دائمًا، أعظم حقيقة في وجودك أن لا تعرف حقيقة هذا الوجود}.

     بلغة الاختصار الشديد، يعتنق القنطار السلام متوَّجًا بالحريّة، ويعلن أنّ استقرار البشريّة لن يكون طالما تحت الشمس صيّاد وبندقيّة وعصفور يتنازل قسرًا عن جناحيه وحنجرته: {طالما يحلو لبعض البشر اصطياد العصافير، تبقى الحياة البشرية غير مستقرّة}. وبمرارة عابقة بعطر الشهادة، يدلُّ القنطار بالإصبع الموجوع على مَن يحيون بفضل الشهداء آخذين أعمارهم، شاربين دماءهم بالكؤوس الثمينة، مستبدلين الوفاء بالإساءة بعد التخلّص من ذاكرتهم: {قاتل من أجلهم حتى تستشهد، وبعدها سيرسلون ذكراك الى غياهب النسيان}...

مطلق وسعادة

وإذا كان المطلق في كلِّ شيء يغمس أظافره في لحم الانسان، فإنَّ خشبة الخلاص من كلِّ مطلق هي في إقناع العين بما هو ضمن دائرتها وها هو مُلكُ شبكتها: {دمِّر المطلَقات تنجُ بحياتك.} وحين يستبدّ الألم باليقظة والقلق بالعقل يغدو النّوم الوجهَ الأجملَ لله، ففيه سلام، وفيه استقرار وطمأنينة وإن لحين: {النوم وجه الله الجميل}.

     ويصافح القنطار السعادة، فيجد في وجهها بعضًا من رحيق الله الذي يهديها إلى من يستحق: السعادة ثروة إلهية توزع بعدل وحكمة على كلِّ من يستحقها}.

ويمرُّ بالانتصار فيعرّيه من شكله الكلاسيكي وضجيج ميدانه، ليراه التزامًا بالقيم بصرف النظر عن الغلبة ورفع الراية: {أن تبقى قيمك وأخلاقياتك العليا دستورًا لأعمالك فهو نصف الانتصار}. ويحدّق إلى العدو فيشاهد الحكمة مكتوبة بماء الذهب على جدار العداوة: {أكثر الحكم المفيدة التي يمكن أن تؤثّر في حياتك وتحوّلها إلى وثيقة هي تلك التي تستقيها من عدوّك}. ويحدِّق إلى العقل فيسمع فيه أيضًا خطو الحكمة التي تجتاز بهدوئها وعمقها قرع الرماح في ميادين القتال إذ إنَّ انتصار العقل بالمعرفة هو وحده صانع سلام الإنسان وفرحه: {الحكمة في العقل أعظم من انتصارات جليلة في الميدان}، ويسند القنطار ظهره إلى حائط السجن، فيعلن أنَّ ما فيه يفوق الإعدام ألمًا لأنّ حياة السجين إعدام متواصل: {السجن هو عقاب يفوق الإعدام، فهو إعدام شامل للحياة البشريّة وإبقاء لوميض حياة فقط لتحسّس هذا الإعدام المستمر}. وفي نظرة شاملة إلى الانسانية، ورغم رغبة القنطار الجامحة في البحث عن مصادر الأشياء، نجده يثأر لوجوده المتألم مهدّمًا، لحين، كلّ ما بناه، قائلاً: {أكبر لقيطٍ في هذه الحياة هو هذه الإنسانيّة بحدِّ ذاتها}...

     في {سرجونيّات} فتح سرجون القنطار محبرته فتحةً كاملة، لتعلنه كما هو، ولترسم الحياة بريشة هواه.