هل نذيع التسريبات؟
لا ينقطع الجدل الدائر بشأن نشر التسريبات في مصر، لا سيما أننا لا نكاد نفرغ من تسريب حتى يظهر تسريب آخر، ولا تتعلق التسريبات التي يتم نشرها بجانب المعارضة المدنية فقط، أو "الإخوان" فقط، أو "التكفيريين" فقط، أو "النظام" فقط، لكنها تتسع لتشمل هؤلاء كلهم.لقد تحولت التسريبات إلى سلاح سياسي خطير وفعّال، وشغلت المجالين الإعلامي والعام، وبالطبع فإنها تثير الكثير من العواصف، وتشعل الكثير من النيران، التي لا تكاد تهدأ حتى تندلع من جديد.
في الأيام الأخيرة تلقيت أسئلة عديدة من زملاء صحافيين وإعلاميين بشأن تلك التسريبات ومدى مشروعيتها ومهنيتها، لكنني لاحظت أن أغلب من يطرح هذه الأسئلة لا يهدف من طرحها إلى الحصول على إجابة متكاملة توضح الاعتبارات الأخلاقية والمهنية التي تحكم عرض مثل تلك المواد عبر وسائل الإعلام، بقدر ما يريد الانتصار لرأي أو موقف.بداية، إن السؤال عن مشروعية إذاعة التسريبات من نوعية الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها بـ"صح" أو "غلط"، لأن هناك تسريباً يمكن أن يكون مستوفياً شروط نشره وإذاعته المهنية والأخلاقية، وهناك ما هو عكس ذلك.لكن معظمنا للأسف الشديد ينظر إلى تلك القضية من منظور سياسي، بمعنى أنه قد يؤيد عرض تلك التسريبات إذا كانت تعزز موقفه وتنال من خصومه، ويدينها بشدة ويعتبرها جريمة ومخالفة إذا كانت تضر بمصالحه.ثمة عدد من القضايا التي انشغل بها العالم أخيراً بخصوص تسريبات معينة، ومن المفيد أن نشير إليها حتى يمكننا أن نفهم أبعاد مثل تلك القضية.يأتي موقع "ويكيليكس" على رأس الحالات التي يمكن أن تكون ملهمة في هذا الصدد، فقد شغل هذا الموقع العالم أجمع حين بدأ بإذاعة تسريباته الخطيرة، والتي فضحت الكثير من السياسيين، وكشفت الكثير من المؤامرات، لكنها أضرت بعدد كبير من الدبلوماسيين ورجال السياسة.كما أن تسريبات إدوارد سنودن، عميل وكالة الأمن القومي الأميركية، أيضاً كانت فارقة ومؤثرة؛ إذ كشف هذا الفتى عن تنصت أجهزة أميركية على سياسيين ومواطنين من دول عديدة، وهو الأمر الذي اعترفت به إدارة الرئيس أوباما.هناك أيضاً قضية تسريب بعض المكالمات الهاتفية المنسوبة إلى الرئيس التركي أردوغان وبعض أركان حكمه وأعضاء أسرته، وهي التسريبات التي سببت حرجاً بالغاً لهذا الأخير، وكشفت عن بعض قضايا الفساد وإساءة استخدام السلطة.وأخيراً، فإن وزارة الخارجية الأميركية قررت نشر عدد كبير من الرسائل الإلكترونية التي تبادلتها وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، عام 2012، لأنها استخدمت بريدها الإلكتروني الخاص في تبادل تلك الرسائل، ومعظمها يخص الشأن العام، وبعضها يتعلق بمسائل خاصة؛ مثل خياراتها المفضلة في الاستماع إلى الإذاعة، أو حواراتها مع أصدقاء بشأن مشاكل تخصهم. تقع قضية التسريبات بين عدد من الاعتبارات القانونية والأخلاقية والمهنية على النحو التالي: أولاً: هناك مبدأ حرمة الحياة الخاصة، وصيانة الحق في الخصوصية، وهو حق مكفول وملزم ومنصوص عليه في جميع المواثيق والعهود الدولية والدساتير، وفي هذا الصدد، فإن القانون يجرم تسجيل المكالمات الخاصة من دون إذن قضائي، ويجرم أيضاً نشرها.ثانياً: تفيد تسريبات "ويكيليكس" وسنودن وأردوغان وإذاعة "إيميلات" كلينتون أن حق حماية الخصوصية لا يصمد أمام تقاطعه مع المصلحة العامة؛ وعلى رأسها بالطبع الكشف عن الفساد أو الجرائم أو إساءة استخدام السلطة.ثالثاً: من حق الصحافة أن تنشر الأنباء والمواد التي تحصل عليها، بشرط أن تقع في إطار اهتمامات الجمهور، وأن تتعلق بمصلحة عامة واضحة، وأن يكون النشر هو الوسيلة الوحيدة الباقية لإثارة القضية، من أجل تصحيح الأوضاع التي نجمت عن المخالفات التي تكشفها التسريبات.رابعاً: هناك عدد من الاعتبارات التي يجب مراعاتها في حال توافرت شروط نشر التسريبات؛ منها أن يكون الجزء المذاع كاشفاً عن حقيقة يجهلها الجمهور، وهي بدورها قادرة على أن تقود إلى تحسين فهم الجمهور للوقائع والأحداث. ومن تلك الاعتبارات أيضاً ضرورة عدم نزع تسريب معين من سياقه، أو تأويله على نحو غير ملائم لإثبات استنتاج افتراضي، فضلاً عن ضرورة أن يتم حذف أي إفادات تتعلق بالحياة الخاصة لأطراف تلك التسريبات، ولا تمتّ بصلة إلى الشأن العام.سيكون من الضروري أيضاً إتاحة الفرصة لأطراف تلك التسريبات لشرح مواقفها حيالها أو نفيها، على أن تتم الإشارة إلى تلك المواقف في حال الإذاعة أو النشر. وببساطة شديدة، فإن اقتران عرض تلك التسريبات بشرح تأويلي، وتفسير استنتاجي، بغرض تشويه الأشخاص المعنيين أو اغتيالهم معنوياً، سيكون إشارة واضحة إلى أن الغرض من الإذاعة لم يكن المصلحة العامة، إنما كان بغرض تلطيخ السمعة والإضرار بالأطراف.إن أي تسريب لا يقود إلى فتح تحقيق أو محاكمة أو يوفر الأسباب الموضوعية لذلك، أو يستهدف التأثير في مسار محاكمة جارية، لا يتوافق مع الاعتبارات المهنية والأخلاقية.لا يمكننا أن نغل يد المسربين على الإطلاق، وإلا ما عرفنا شيئاً عن سجن "أبو غريب"، أو تنصت الإدارة الأميركية، أو فضائح أردوغان، أو مخالفة كلينتون للقوانين واللوائح.ولا يمكننا أن نوافق على عرض كل تسريب، وإلا ارتكبنا جريمة بالمعايير القانونية والأخلاقية والمهنية، وهي جريمة يمكن أن تطيح عالم الوسيلة الإعلامية، كما حدث مع صحيفة "نيوز أوف ذي ورلد" البريطانية، التي توقفت عن الصدور، في أوج تألقها، بعدما تم كشف فضيحة تنصت محرريها على هواتف بعض المصادر.وحتى تتمكن من الحكم على مشروعية أي تسريب، اسأل نفسك هذا السؤال: "هل أراد مذيع التسريب كشف حقيقة تتعلق بالمصلحة العامة، أم أراد تحقيق غرض سياسي، بتشويه سمعة البعض، واغتيالهم معنوياً، وحصد مشاهدات وبيع نسخ إضافية؟".هناك مسألة أخرى في غاية الأهمية، فمن سجّل خارج إطار القانون، وسرّب ما تم تسجيله، مجرم تجب محاسبته.* كاتب مصري