"بستان الغزال المرقط"، عنوان لأربع مجموعات قصصية للكاتب المغربي الشاب إسماعيل غزالي، جُمعت ونُشرت في كتاب واحد ضم المجموعة الأولى المسماة بـ"عسل اللقالق" والثانية "لعبة مفترق الطريق" والثالثة "منامات شجرة الفايكنج" والرابعة "الحديقة اليابانية"؛ أربع مجموعات قصصية كُتبت بذات المناخ القصصي وبنفس الأسلوب المتميز والمتفرد بشكله ومضمونه وحتى بعناوينه.
وهي برأيي من أروع القصص القصيرة الحديثة التي قرأتها، وتنبئ عن ولادة كاتب، هو بلا شك، علامة كبيرة في مستقبلها، فلأول مرة أقرأ قصصا لا تشبه أي أسلوب كان قبلها، ففرادتها ملك لكاتبها وحده، بختم وصك ملكية وريادة فيها لم يسبقه إليها أحد من قبل. قصص فيها انسياب وخفة في لغة سردها تكاد تحمل القارئ وتطير به في عوالم الأحلام التي تتناسل وتتوالد منها المشاهد وتكر خيوطها من بكرات تلعب بها أصابع مرقص الماريونيت بطريقة سرية مذهلة، ممزوجة بسحرية واقعية سريالية، تصاحبها لغة شعرية مميزة وباذخة بخصوصية حق الملكية لصاحبها. لغة مرسومة بريشة فنان مغموسة بندف السحب وبساطة النسيم، تتناول السرد بطزاجة آتية من قرطاس جدتها، لغة فاحشة الثراء، قادرة على مسك تلابيب روح القارئ ولا تفلتها إلا وهو مغزول بإبهار فتنتها. قصص إسماعيل غزالي تتوالد من خيال خصب منفلت من عقاله بأحلام تتناسل من بعضها بعضا، وتتوالد بحكايات يمحو بعضها بعضا أو يؤكدها، وحتى أبطالها يتبادلون الأدوار فيها، وكذلك المطارح لا تستقر في زمانها، ولا الزمان ذاته يقف عند بواباتها، كل الوقائع منزلقة من حقيقتها وواقعها، لا شيء يعرف ثباته أو يملك ناصية يقينه، لا شيء عند إسماعيل يُقبض عليه فكلها أحلام منسربة من عالم ضبابي وذاهبة إلى غموض أعظم، حتى عناوين حكاياته هي أيضا خضعت لخيال نساج خيوطه من بكرات أحلام ملونة بألوان الطبيعة، وثغاء أصواتها وتغريد طيورها وتنوع نوتات موسيقاها. الكون كله يتلو حكاياته في مشاهد لا تُحكى لكنها تُمتص وتُرتشف بذاكرة الحواس بأجمعها، لذا من الصعب إعادة قصها لأنها غير قابلة للتدوير. سأذكر بعضا من مشاهد لا تنسى: "كيف يمرح الفستان في شرفة هذه المرأة والظهيرة تستفحل فيه شمس جاثمة على أنفاس الجهات؟". "هذا ما يؤثث الفراغ المديد والمتناسل دونما نهاية ووحده السراب يتحرش بنزر الريح المنهكة كما أرملة في أرذل العمر تنفض غبارا أحمر عن حجارة الطريق التي لا تفضي إلى شيء، أو تفضي إلى المزيد من الخلاء بالأحرى". "على نفس تلك الدراجة الهوائية، الرفيعة، التي يصدر عنها هسيس أثير يشبه هسيس عبور سنونوة، خرجت الراقصة اللاذعة الليونة، من بيتها الساحر على المنحنى، مثل ترغلة، عند منتصف النهار، حيث الشارع المؤثث بحجر صقيل، يعيث فيه الفراغ جلالا، فراغ مطلق إلا من ملاعين، يتلصصون على آثام الظهيرة، بعيون ذئاب مرقطة". "أركض وتركض خلفي الأشجار، أركض وتركض خلفي الكمنجات، أركض وتركض خلفي الغيمات، أركض وتركض خلفي الإوزات، أركض وتركض خلفي كراسي الحديقة، أركض وتركض خلفي البنايات والفنادق، أركض وتركض خلفي التماثيل، أركض وتركض خلفي المدينة، أركض وتركض خلفي الأرض، أركض وتركض خلفي الحياة، أركض ويركض خلفي الزمن". ويبقى، وأنا أقرأ في قصصه أن تذكرت المقال الذي كتبته عن روايته "موسم صيد الزنجور" حين قرأت قصة "امرأة وحيدة على متن قارب" التي هي "ماكيت" للرواية فقد استولد منها روايته، وكانت جيدة لكنها ليست بجودة قصصه القصيرة، وأظن، وهذا رأيي الخاص، أنه كاتب قصة قصيرة فذ لكنه في الرواية أقل جودة من القصة، فالرواية لم تتحمل التناسل الكثير الذي أثقلها وقلل من تماسكها وأفرط لحمتها، وإن كانت كل قصصه تتحمل المط وتوسيع البناء إن تمكن من السيطرة على بنائها المنطقي ومتانة تماسك معمارها. إسماعيل غزالي، كاتب قصة سيحفر اسمه في شجرة تاريخها، لكن الخوف عليه من أسلوب الأحلام الذي خطه في كتابته، فقد ينتهي به إلى سكة سد حين يتشبع القراء منه، فهذا الأسلوب الإبهاري يفقد ابهاره بتكرار عروضه وهو ما تعلمته من العمل في المسرح التجريبي الذي يُبهر المشاهد حين يراه في المرة الأولى، لكنه يفقد الإبهار في المرة الثانية حين تنكشف قواعد اللعب فيه.
توابل - ثقافات
بستان الغزال المرقط
25-05-2015