كلما رحل أحد المثقفين {الكبار}، تبيَّن أن ثمة كثيرين يجهلونه، وأن قيمته الأدبية أو الفنية لم تفتح له نافذة على من أغلق الباب بعدما اختار {منتجات} بعينها ليتابعها. لا يخرج الشاعر جورج جرداق من هذا الإطار. إلا أن قصائده المغناة شكّلت ورقةً رابحةً في مسيرته. فلا ريب، لم تضف كثيراً أو قليلاً من الوزن والقيمة الفنّية إلى شعر جرداق، أصوات غنّت قصائده، أبرزها أم كلثوم (هذه ليلتي) ووديع الصافي ونجاة الصغيرة وماجدة الرومي وهبة القواس. ولكنها أسهمت في نشر شعره وإيصاله إلى كثيرين على اختلاف طبقاتهم.

Ad

كذلك حقّق له إصداره موسوعة عن الإمام علي بن أبي طالب، ورقة رابحة أخرى، وكان كفيلاً بأن ينال لقب {المسيحي عاشق الإمام}، كما أطلق عليه البعض. الموسوعة بعنوان {الإمام عليّ صوت العدالة الإنسانية}، وتقع في خمسة أجزاء هي: {عليّ وحقوق الإنسان، بين عليّ والثورة الفرنسية، عليّ وسقراط، عليّ وعصره، عليّ والقومية العربية}. ثم أتبعها بملحق كبير بعنوان {روائع نهج البلاغة}.

قدّم جرداق أيضاً دواوين شعرية متميزة، أبرزها: {أنا شرقية، بوهيمية، إلهة الأولمب، قصائد حب، أبدع الأغاني}. ألّف أيضاً كتاباً عن صلاح الدين الأيوبي، وكتاب {العرب والإسلام في الشعر الأوروبي}، وغيرهما.

 

شعره

 

يعتقد عدد من النقاد أن وظيفة الشعر تبدّلت مع تنوع مصادر النص الشعري، وأن أبعاد التجربة الشعرية تتجلى في القراءة أكثر مما تتجلى في {السماع} أو في أطرها البلاغية التقليدية. أما جرداق فأوضح لنا (في مقابلة أجريناها معه ونشرتها {الجريدة} في تاريخ الأربعاء 19 مارس 2008) أن قيمة النص الشعري الحقيقية  لا علاقة لها بطريقة إيصال النص الى المتلقّي بالقراءة أو بالسماع، بل بمقدار ما فيه من اكتمال العمل الفنّي في الصورة والمادة، وبما بين عناصره جميعاً من وحدة فلا يُجزَّأ ولا ينفصل بعض عناصره عن بعض. أما من حيث تنوّع أو تحوّل مصدر النص الشعري، {فأنا لا أؤمن بهذه النظريات الباردة التي تريد أن تُخضع الثوابت الجمالية في العمل الفنّي بعناصره جميعاً لـ{الموضة}. ليس في الفن قديم وجديد وتقليدي وتحديثي. ثمة عمل فني صادق وسليم وجميل لا يتأثر بالنظريات الموضوعة وفق الأهواء والمشارب}. وفي المقابل، ثمة عمل {مُوضويّ} سخيف يصدر باسم {الفن} ولا يترك أثراً في النفوس والمشاعر والعقول ولا يتجاوز عمره حدود الزمان والمكان اللذين يولد فيهما.

 

 عبد الوهاب وأم كلثوم

 

كان جرداق صديق محمد عبد الوهاب (المعروف بشغفه بالشعر وصديق معظم شعراء عصره). وصفه الموسيقار بأنه {أحد أربعة من أصدقائه. (أحمد شوقي والأخطل الصغير وعلي محمود طه وجورج جرداق)، هم من أكبر الشعراء الذين عرفهم في حياته}. عن هذه العلاقة تحدث إلينا جرداق موضحاً أنه عندما أطلق عبد الوهاب أغنيته {الكرنك}، كان الشاعر طالباً في أحد الصفوف الثانوية في الكلية البطريركية في بيروت. وكان شديد الإعجاب بعبد الوهاب وبـ{الكرنك} بصورة خاصة، فاندفع إلى أن ينظم قصيدة في عبد الوهاب، نُشرت في مجلة {الأحد} لصاحبها نقيب الصحافة رياض طه، ومما قاله فيها مخاطباً عبد الوهاب: ملأتَ الشرقَ اَلحاناً عِذاباً فَرَقَّ لها وردّدَ ما تغنّي/ وأدركتَ الحياةَ على مداها جمالَ قصيدةٍ وجمالَ لحنِ.

وقرأ عبد الوهاب القصيدة، فأعجب بها إعجاباً شديداً، عبّر عنه برسالة شكر بعث بها إلى جرداق يومذاك. وأوضج جرداق في لقائنا أنه لا يزال يحتفظ بها في خزانة تحوي رسائل الموسيقار إليّه. و{بعد ثلاثة أشهر حضر عبد الوهاب إلى لبنان للاصطياف فيه على عادته في كل عام، ونزل في فندق {سميراميس} في بلدة بحمدون. كان يرافقه يومذاك مطرب مصري، فأرسله إلى بيروت وقال له: تدور على كل الصحف بحثاً عن جورج جرداق وتظل تبحث عنه الى أن تجده، وإياك أن تعود الى هنا إلا وهو معك! وهكذا كان. فقد عثر الأخ المطرب عليّ ومضينا معاً إلى بحمدون. وكانت تلك فاتحة علاقتنا الوثيقة الدائمة التي استمّرت طيلة العمر}.

سألناه أيضاً: كيف تعرّفت إلى أم كلثوم، وماذا عن تعاونكما الذي أدى إلى إنجاز حدث فني كـ{هذه ليلتي}؟ بهدوء رافقته ابتسامة امتدت على طول الإجابة، قال: {كنت في مصر. وذات ليلة مضيتُ في صحبة الصديق مصطفى أمين صاحب {دار أخبار اليوم} الصحافية لحضور حفلة زفاف أحد الأصدقاء في فندق هيلتون. وهناك وجدنا أم كلثوم التي دعتنا إلى طاولتها. بعدما تعارفنا وفي أثناء السهرة أظهرت أم كلثوم سرورها الشديد بهذه الجلسة وطاب لها الحديث. وعندما انتهت السهرة، الحّت علينا كي نمضي في الليلة المقبلة الى منزلها لتمضية السهرة عندها. وهكذا كان ومنذ ذلك الحين، كانت أكثر سهراتي في مصر في منزلها. وكانت عندما تحضر إلى بيروت تتصل بي كي أكون جليسها الدائم حيث تكون. وفي سهراتنا في القاهرة، حدثت طرائف كثيرة}.

 

ربما لم يقرأ جرداق أحداً من شعراء هذا الجيل؟ ولم يستمع إلى أحد من المغنين الذين يظهرون على المسارح والشاشات. فهؤلاء يزدادون تدهوراً سنة تلو أخرى، والشاعر الراحل كان أفضى لنا أنه يقرأ الشعراء الجديرين بهذه الصفة من مختلف الأمم. وفي طليعتهم أبو الطيب المتنبي وأبو نواس.

يروي البعض أن جرداق عدّل مطلع قصيدة {هذه ليلتي} نزولاً عند رغبة أم كلثوم. وهي حقيقة أكّدها لنا الشاعر مبيناً أن السبب في ذلك أن المقطع الأول من قصيدة {هذه ليلتي} كان يحتوي على كلمة {داود}. و«فيما كنا ذات ليلة في سهرة عند أم كلثوم، محمد عبد الوهاب وأنا، اقترحت أم كلثوم حذف الكلمة فاعترضنا، وقلنا لها: لماذا يستحسن أن نحذف كلمة {داود} هذه؟ ألم يسبق لأحمد شوقي أن ذكر داود مراراً عدة في شعره، وغنى عبد الوهاب هذا الشعر من دون أن يكون هنالك أي حرج عليه في ذلك؟  

عن الأغنية العربية تحدث إلينا جرداق أيضاً، فشرح كيف أن تراجعها يمثّل صفحة من صفحات التراجع الشامل في كل باب في المجال العربي.}نحن نعيش في ديار تخضع لأنظمة سيئة وفاسدة في معظم مجالاتها}، قال. {يستبدّ فيها وحش المال بكل ما يتعاطاه الناس أفراداً وجماعات، وبكل طرق التعامل والتفاعل في ما بينهم. فالمجتمع جسم متكامل متفاعل كل ما فيه يؤثر بكلّ ما فيه على الصعد كافّة. ووحش المال في مثل مجتمعاتنا هو الذي يرسم طريق الفئات والطبقات كلها ويعيّن لها اتجاهات وغايات في كل ما تعمل وتنتج. ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية هي ناشر الأعمال الغنائية الأقوى والأول، وهي، عندنا نحن، أداة يستخدمها وحش المال لبسط سلطانه في ساحة الغناء، وتسيّرها الروح القاصرة الفاجرة بصورة مطلقة}.