يرى الكاتب والروائي مكاوي سعيد أن العلاقة بين السياسة والثقافة ملتبسة للغاية، وأن ثمة قواعد سياسية معاصرة عدة مستنبطة من الظواهر الثقافية البحتة، ورغم ذلك نجد إنكاراً واضحاً لصوت المبدع والمثقف أو الفنان ونقده الأوضاع الراهنة وأطروحاته لحل المشاكل المجتمعية. إلا أنه كثيرين من أهل الثقافة والإبداع لا يكفون عن محاولات تغيير الواقع من حولهم بطرق رسمية وغير رسمية.

Ad

ويعتبر مكاوي أن بوسع الجميع الحديث إنشائياً عن الأمر ووضع نظريات تنظم العلاقة بين السياسة والثقافة، ولكن الأهم من ذلك هي الممارسة الفعلية، وإتاحة الفرصة للمشتغلين في حقل الثقافة للتدخل في المشهد.

ويرجع سعيد الأمر إلى أصل تاريخي، مجرداً العلاقة الراهنة بين الثقافة والسياسة في صراع بين «القوة والمعرفة» منذ القدم، ويوضح أن ثمة ثنائيات تابعة للظواهر السالفة ظهرت كـ «السرد والتطبيق» و{النظرية والعمل»، وهي أمور نعاصرها. وبمجرد حدوث توافق بينهما سيستفيد كل طرف من الآخر. ويستشهد بعبارة لأمين عام جامعة الدول الأسبق عمرو موسى: «المثقفون اليوم هم جنرالات المعركة المقبلة وقادتها ومحددو نتائجها. بات عليهم من الآن فصاعداً القيام بدور محوري في معركة الدفاع عن الأمة وحضارتها».

ويقول الناشر المصري محمد هاشم إن الثقافة أحد العناصر الأساسية في حياة المجتمعات البشرية، وأن علاقتها بالسياسة غاية في التشابك والتعقيد، ويرى أن أحدهما نتيجة للآخر، فالوعي السياسي في مجتمع ينتج منه نشاط ثقافي مزدهر، وبالمثل فإن تردي الأحوال السياسية في بلد ما يعتبر مقدمة لتهميش الثقافة وتغييبها وانعدام الوعي بها.

ويرى هاشم أن الحراك السياسي الواسع الذي أعقب ثورات الربيع العربي، انعكس مباشرة على ذهنيات جمهور المتلقين، وأصقل لديهم ملكات التمييز والمقارنة والتصنيف لألوان عدة من الإبداع والثقافة والفنون على وقع التغيرات الطارئة في أوضاع الاحتجاج والتمرد والفعاليات الحزبية المتتالية أخيراً، موضحاً أنه حتى الآن لم تتضح بلورة نهائية لما نتج من أوضاعنا في السنوات الأربع الأخيرة، وتأثير ذلك على تشكيل توجه ثقافي معين وأوضاع واضحة للوسط الثقافي.

ويستطرد بأن ما يمكن رصده والحكم عليه هي أوضاع المثقفين خلال العقود الأربعة الأخيرة، ويصفها بأنها {لم تكن في أفضل حال} نظراً إلى حالة الصراع بين السياسي والمثقف ونظرة الأول إلى الثاني باستعلاء واعتماد صانعي القرار على مصادر غير محترفة لترسيخ ثقافة المجتمع، ذلك لعدم اعترافهم بأي دور للمثقفين على الساحة، مطالباً هؤلاء بعدم التنصل من المهام الملقاة على عاتقهم بدعوى {استقلال المثقف}، وإنما المساهمة في مشروع ثقافي ينهض بالأوطان .

الدكتورة حبيبة بكري، الأستاذة في كلية الآداب جامعة حلوان، تنقل عن تيري إيجلتون أحد أهم الباحثين والكتاب في النظرية الأدبية قوله: {إن حصر المثقف في دور عاجي بواسطة مجموعة من المثقفين والمبدعين أنفسهم يعزز عزلته عن الواقع المحيط به}، وتضيف بكري أن {المثقفين استطاعوا تغيير عدد كبير من العادات والمفاهيم المتعلقة بالسياسة في منتصف القرن الماضي وحتى الآن}، وترى أن واجبهم الأهم الآن يتمثل في تضييق الفروق وإيجاد أرضية مشتركة بين الأطراف السياسية والثقافية، وحتى المجتمعية الخالصة، للحد من الصراعات الطائفية والصدامات بين الحكومات وشعبها، وإيجاد صيغ إيديولوجية لحقوق الإنسان في الداخل المحلي أو الخارج الإقليمي.

وتنتقد البكري انشغال عدد من المثقفين بظواهر ثقافية سياسية كلاسيكية، وذلك على حساب أوضاع راهنة ومعطيات معاصرة، قائلة لـ {الجريدة}: {عليهم ألا ينشغلوا بمزيد من حبس النفس داخل نقاشات حول نظريات اليسار ومنظومة الرأسمالية وما شابهها، وإنما العمل على تطوير حواسهم النقدية وعقولهم وخطابهم المتعلق بأمور سياسية وثقافية، والتخلي عن اللغة الخشبية والتواصل بفاعلية مع القواعد الشعبية لبلدانهم حتى يصل صوت المبدع إلى عمق النظم الحاكمة، وتؤكد ضرورة عدم التذرع بالصراع الأزلي بين الثقافة والسلطة}.

الشاعر والكاتب عماد فؤاد يرى أن ثمة {أزمة مثقفين} اليوم مماثلة لتلك التي أعقبت ثورة يوليو 1952، والناتجة من فجوة بين مستوى طموحات الفنانين والشرائح الشبابية المطالبة بتوسيع هامش الحريات والحقوق المدنية، وبين الدولة المنشغلة بحفظ الكيان الوطني وإعادة بناء الدولة واستعادة هيبتها.

ويضيف فؤاد أن أصوات الفنانين وإسهاماتهم لم تخفت رغم التحديات المحيطة بهم كافة، ونراهم في المعارض الفنية والكتابات الأدبية والنشاطات الثقافية يجابهون نزعات السيطرة والفساد والاستبداد وحتى الإرهاب الفكري، ويتعرضون للملاحقة أحياناً، ورغم ذلك يظهرون ويستغلون المساحات الرقمية الافتراضية عبر مواقع التواصل لتحقيق حالة من الحشد، الكفيلة، بحسب فؤاد، بإحداث {حراك} يثبت دور المثقفين والمبدعين المنوط بهم.

ويختم فؤاد حديثه بأن في المرحلة السياسية التي نحياها الآن سيتضح دور كامل للمنتمين إلى الأوساط الثقافية والفنية، بمجرد تحقيق مستوى معيشي جيد يجنبهم الاستسلام لقواعد السوق الاستهلاكي أو الإملاءات الرسمية، من دون أن يتخلوا عن دورهم في حفظ الكيان الوجودي للجماعة البشرية التي يعيشون معها عبر إنتاجهم وإسهاماتهم الإبداعية.