يرفع الإمبرياليون الجدد صوتهم من حين إلى آخر، على غرار رجل مسن ينهض من قيلولته، فيعربون عن الحنين وفقدان الذاكرة، مطالبين بأيام الإمبراطورية الماضية التي سادها النظام.
من دون استثناء، لم يختبر هؤلاء المهللون للإمبراطورية واقعها مطلقاً: لم يكونوا بين الجنود الذين بترت أطرافهم، أصيبوا بالعمى، أو ماتوا دفاعاً عن طبقة حاكمة بعيدة، ولم يكونوا أيضاً بين مَن أخضعتهم قوة أجنبية وحكمتهم، مقاومين بكل وسيلة متاحة.إذاً، هذا هو نوع الحنين لماض من نسج الخيال الذي يعرب عنه روبرت كابلان، كاتب أميركي يشتهر بمقالاته الموسعة عن التطورات الجيو-سياسية (التي تتأثر عادة بجرعة كبيرة من الاعتقاد أن القوة العسكرية الأميركية تستطيع حل معظم المشاكل).في مقاله الذي نُشر قبل أيام في مجلة Foreign Policy، ذكر كابلان أن على الولايات المتحدة أن تعيد الإمبريالية إلى الشرق الأوسط.كتب: "فرضت الإمبريالية النظام، بغض النظر عن مدى رجعيته، فمن دون نظام ما من حرية لأي أحد".ولكن لا داعي لأن يحاجج كابلان قائلاً: "قد يسعى الرئيس الأميركي الجديد عام 2017 إلى إعادة إرساء النفوذ الإمبريالي الغربي"، لأن رئيساً أميركياً سابقاً حاول ذلك. تشكل الإمبريالية "الجديدة" حجة قديمة، حجة كُررت في عام 2002 و2003، قبل الغزو العراقي وبعده.حاول جورج بوش الابن فرض الإمبريالية الجديدة في الشرق الأوسط بهدف تطبيق نظام أميركي جديد على مجتمعات معقدة، لكنه أخفق إخفاقاً ذريعاً، دفع ثمنه بدمار دولتي أفغانستان والعراق، انهيار حياة الكثير من العراقيين، والأفغانيين، والأميركيين، واستنفاد الموارد الأميركية الواسع الذي سرّع عملية الحد من النفوذ الأميركي.حتى اليوم، يمكننا إعادة جزء من الأيام الحالكة التي يعيشها العراقيون مباشرة إلى قرار البيت الأبيض الكارثي غزو هذا البلد.تكمن مشكلة هؤلاء الرجال الذين يحلمون بالإمبريالية في أنهم يرغبون في أن يشكلوا إمبراطورية هم أنفسهم، يريد كابلان إعادة الإمبريالية إلى الشرق الأوسط، إلا أنه لا يريد أن يكون الإمبرياليون إيرانيين أو أتراكاً أو روساً أو مصريين، لا يريد أن ينظر العرب إلى الفوضى في إسرائيل وفلسطين ويقرروا أنهم يستطيعون إدارة البلدين بشكل أفضل، فلا تثير هذه الإمبريالية اهتمامه، وعندما ينادي بالإمبريالية الجديدة يعني إمبريالية أميركية جديدة.ولا يسعنا إلا أن نتساءل: إن كان مؤيداً كبيراً للإمبريالية، أفلا يرغب في إعادة الهيمنة البريطانية على أميركا؟ هذا هو بالتحديد نوع العدسات القومية الضيقة ونوع العجز عن رؤية التعقيدات الكبيرة في هذا العالم الذي يجعل بعض المحللين والكتّاب عاجزين عن فهم أي بلد آخر غير بلدهم.صحيح أن نقطة انطلاق كابلان خاطئة، إلا أن خلاصته سليمة، فقد نجح في تشخيص المشكلة بدقة، غير أنه أخطأ في وصف الدواء، فلا يمكن المبالغة في وصف أهمية الاستقرار في الشرق الأوسط، ولكن ثمة دروب عدة إلى الاستقرار، فقد نجحت دول ومناطق أخرى في فرض الاستقرار من دون إمبراطورية، كذلك تشكل الفوضى في أجزاء عدة من الشرق الأوسط اليوم مجرد لحظة تاريخية، فما من أمر خاص بهذه المنطقة يتطلب يداً حازمة.نتيجة لذلك، كان حري بكابلان أن يصف الشراكة، لا الهيمنة، فيعود الاستقرار في الشرق الأوسط بالفائدة على المنطقة والعالم الأوسع، ولا شك أن الشراكة الحقيقية تشكل سبيلاً إليه.يزداد الوضع المضطرب اليوم في الشرق الأوسط تعقيداً بسبب السياسات والرؤى المختلفة لهذه المنطقة: تسلح الولايات المتحدة إسرائيل، مما يهدد إيران التي تتدخل في شؤون الخليج العربي، الذي يشتري بدوره الأسلحة المتطورة من الولايات المتحدة.بالسعي لتأليب البلدان الواحد على الآخر، يؤيد كابلان بكل بساطة الحفاظ على الوضع الراهن، إنما مع لاعب جديد، لكن فكرة أن الولايات المتحدة تستطيع فرض نفسها على مختلف أنحاء الشرق الأوسط ما هي إلا وهم مريح بالنسبة إلى المحافظين الجدد.ينسى الإمبرياليون والمهللون لهم غالباً كم قاسية محاولات تأسيس إمبراطورية، سواء بالنسبة إلى البلد المستعمَر أو البلد الغازي.ففي النهاية، لم يرحل أي من الغزاة طوعاً، سواء كانوا البريطانيين في العراق، أو الفرنسيين في الجزائر، أو الروس في أفغانستان، أو الأميركيين في العراق (مجدداً). رحلوا كلهم لأنهم أُرغموا على ذلك.من هذا المنطلق يكون حض الإمبرياليين الجدد على عودة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط مجرد حلم عن القوة الأميركية اليوم وتناسياً للسجل التاريخي، فقد جربت الولايات المتحدة الإمبريالية في الشرق الأوسط وأخفقت.* فيصل اليافعي | Faisal Al Yafai
مقالات
هل الشرق الأوسط بحاجة إلى إمبراطورية؟
04-06-2015