«تجريد»... تجربة روائية
الرواية هي الجنس الأدبي الوحيد الذي لا يحده شكل ولا تربطه قيود، وهو فن يتجدد بسهولة على العكس من بقية الأجناس الأدبية الأخرى التي ترتبط بأشكالها التقليدية، ولا يعتريها إلا تغيير طفيف يظل مرتبطاً بها لفترات طويلة. بإمكان الروائي استخدام تقنية محددة للرواية والخروج منها في رواية أخرى، دون أن يختل مسمى الجنس الروائي. فيستطيع مثلا فولكنر أن يكتفي في أحد فصول روايته بجملة واحدة على لسان أحد أبطاله، وهو يفعل ذلك في أوائل القرن الماضي، ويفعل ذلك يان مارتل أيضاً في مطلع القرن الحالي. وبإمكان الرواية أن تتناول تاريخا طويلا وأزمانا وأماكن مختلفة، وتستطيع أن تلغي كل ذلك لتكتفي بأقل عدد ممكن من الشخوص.
في تجربة روائية جديدة تحاول هديل الحساوي أن تستفيد من مرونة العمل الروائي لكتابة نص روائي قصير يتخلص من كل ما يرتبط في ذهن القارئ عبر روايات تعرف عليها سابقا. لا وجود هنا لفواصل زمنية محددة، لا تواريخ مهمة ولا أماكن محددة تلعب أدوارها التي اعتادت أن تلعبها في الروايات عادة. لا شخوص بأسماء وملامح وصفات ولا خطوط درامية متقاطعة. ببساطة هنا حالة وجدانية تسير في خط أفقي حتى نهايتها دون أن نتوقع مفاجأة حدث كبير تخبئه الكاتبة لنهاية غير متوقعة. منذ بداية النص كان الصراع الذاتي ومحاولة التحرر من الآخر والخروج من معركة ثنائية أبدية في الحياة هو المحور الرئيس والوحيد في جدلية البقاء والفناء، في صراع أن أكون كما أنا، أو كما أنت تريد. "تجريد" هو عمل الروائية الثاني، وما يميزه الجرأة على ابتكار شكل كتابي مغاير نوعا ما يرتكز على خطاب نسوي في الغالب وذاتي بالتأكيد تلعب فيه البطلة دورها الوحيد، تاركة مساحة قليلة للآخر للتحرك في نسيج الحكاية الأبدية وصراع طرفيها: المرأة والرجل. لم تحاول البطلة الوحيدة في العمل أن ترسم صورة عدائية للرجل كي تبرر رحيلها نحو ذاتها، لم يكن رجلا يستحق أن تكرهه، وفي الوقت الذي منحته حرية الحديث كان رجلا من مجتمعها البديل عنه يشبهه تماما، ولهذا كان خيارها أن ترحل فقط، ليس لأنه عاجز عن احتوائها، ولكن لكونها صعبة الاحتواء.الفصل الأجمل في العمل كان الصراع بينهما على الواقع وتصويره صراعا في لعبة شطرنج يلعبانها. كانت تعلم أنها ستخسر في النهاية، ولكنها قررت أن تخوض معركتها لأطول وقت ممكن. تخسر ولا تستسلم "على تلك الرقعة أدركت للحظات أن التضحية بالفارس والقلعة سيمنحني فرصة الاستمرار لوقت أطول". كان واضحا أنها قررت خسارة الرجل والمنزل، وأن صمودها لا يعني عدم خسارتها. كل الأشياء التي تتوق إليها معه لم تفقدها طوال الصراع مع داخلها الذي تمرد على أشياء غير محددة. فهي لا تعرف الى أين ستتنهي، وهو لا يعرف أيضا سبب رحيلها. يتمسك بها كهبة وجدت بين يديه فجأة وتتمسك بكونها خائفة من القرار الذي سيخرجها الى مجهول لا تعرفه. لكنها قررت أخيرا "الخوف حذائي القديم سأخلعه وأمضي".رغم بساطة العمل الروائي وإصابته ببعض الرتابة والتكرار، كما أن أخطاءه الإملائية والنحوية، والتي كان بالإمكان معالجتها لم تكن مبررة، إلا أن محاولة التجريب تستحق الثناء.