فجر يوم جديد: {السيدة} و{السندريلا}
لم يخطر على بالي أن رحيل فاتن حمامة سيكون سبباً في تفجير خلاف كبير بين أنصارها وبين مُريدي سعاد حسني، فقبل أن يجف دمها، ويُوارى جثمانها التراب، احتدمت مقارنة عنيفة بين «سيدة الشاشة العربية» و«السندريلا»، وراح كل فصيل يُحاجي الآخر بأن الله منح محبوبته الموهبة، وفطر القلوب على محبتها، ومن ثم فهي الأحق بالتربع فوق القمة!في سياق المعركة قيل إن فاتن موظفة بدرجة «ممثلة» و{ديكتاتورة» تنتقي فريق العمل بنفسها، ولم يحدث أن خرجت من عباءة الدور الواحد للفتاة المغلوبة على أمرها، وأنها استمدت شهرتها ومكانتها من رؤيتها «الأخلاقية» لدور الفن في حياة الشعوب، بينما سعاد متمردة، صاحبة تركيبة تميل إلى الجموح، وتجنح إلى الشطط، لم تتوقف عن السباحة ضد التيار، ولم تسجن نفسها يوماً في إطار لون بعينه أو دور تدور في فلكه، وأبت أن تقع في براثن شخصية مهما كانت جاذبيتها!
تأملت ما يحدث على الساحة خلال الأيام القليلة الماضية، وتمنيت أن يخرج علينا من يعود بنا إلى سنوات التكوين في حياة كل منهما، وما لها من تأثير كبير على شخصيتهما، فلا يمكن، مثلاً، تجاهل تأثير البيئة الهادئة، والأسرة السعيدة، على الطفلة فاتن أحمد حمامة، التي ولدت في العام 1931، لأب يعمل موظفاً في التربية والتعليم، فقد كانت شقيقة لولدين وفتاة، وكانت ترتاد دور العرض السينمائي، مع إحدى سيدات الأسرة، وهي في السادسة من عمرها. بدورها عاشت سعاد محمد حسني البابا، التي ولدت في العام 1943 لأب عمل كخطاط، طفولة بائسة في عائلة تتكون من ستة عشر أخاً وأختاً كان ترتيبها العاشر بينهم، وفي الخامسة من عمرها فوجئت بانفصال الأب عن الأم، التي اقترنت بمفتش في التربية والتعليم. وعانت سعاد حياة الحرمان، وعدم الاستقرار، كما عاشت لحظات عصيبة عقب حكم المحكمة الشرعية بحق الأب في حضانة البنات، وتسليمهن من رجال الشرطة إلى والدهن، قبل أن تنجح الأم الحزينة في استعادتهن وضمهن إلى حضنها! عادت سعاد إلى حضن أمها ولكنها فوجئت بزوج الأم يحرمها وشقيقاتها من الذهاب إلى المدرسة، في حين اهتم والد فاتن بأن يُشارك بصورة ابنته، وهي ترتدي زي الهلال الأحمر، في المسابقة التي نظمتها مجلة «الاثنين» لاختيار أجمل طفلة، وحصدت اللقب بالفعل. لاحقاً اختارها المخرج محمد كريم للمشاركة في فيلم «يوم سعيد»، وعندما أصبحت فتاة يافعة التحقت بالمعهد العالي للتمثيل، فيما استسلمت سعاد لقدرها، وكادت تسقط ضحية الجهل لولا أن وضعت الظروف في طريقها الأديب والشاعر عبد الرحمن الخميسي، الذي فوجئ بأنها تجهل القراءة والكتابة، وشملها برعايته، وضمها إلى الفرقة المسرحية التي كان يؤسسها مع المخرجين المسرحيين جلال الشرقاوي وأحمد زكي، والمخرج الإذاعي أنور عبد العزيز والمخرج المسرحي والإذاعي فاروق الدمرداش، وعهد إلى إبراهيم سعفان، الذي كان زميلهم في الفرقة، مسؤولية تعليمها القراءة والكتابة، فيما تولت أنعام سالوسة مهمة تدريبها على الإلقاء والتمثيل. ورغم تعثر المسرحية، بسبب ظروف التمويل، فإن الخميسي ظلَّ متحمساً لها، ورشحها لبطولة فيلم «حسن ونعيمة»، الذي كان يستعد بركات لإخراجه عن قصة عبد الرحمن الخميسي، الذي تبناها، كما تبنى يوسف إدريس، وإليه يعود الفضل في توريثهما «جينات التمرد»!لم تكن فاتن قد بلغت التاسعة من عمرها عندما شاركت في فيلم «يوم سعيد»، كما كانت سعاد قاصراً عندما اختيرت لبطولة فيلم «حسن ونعيمة»، ما دفع أمها إلى توقيع عقد الاتفاق بالإنابة عنها، نظير أجر بلغ مئة جنيه ارتفع قبل انتهاء التصوير إلى مئتي جنيه بسبب التزامها.بالنظر إلى سنوات التكوين، وانعكاس مؤثراتها على حياة النجمتين، كان طبيعياً أن تعيش «السيدة» فاتن حمامة متحفظة، شديدة الحرص على صورتها الذهنية لدى جمهورها، تخطط بدقة وصرامة لمسيرتها، ولا تتجاوز الخطوط الحمر في حياتها، وكأنها تؤمن بالبيت الشهير في ديوان «الحماسة» لأبي تمام: «قدر لرجلك قبل الخطو موضعها»، بينما آلت «السندريلا» سعاد حسني على نفسها أن تعيش الحياة حتى الثمالة، ولا تترك فرصة من دون أن تستغلها لتنطلق وتتحرر، فهي التي تدعو إلى الثورة والسخرية، وتنتقي من أشعار صلاح جاهين المقطع الذي يقول: «أنا بضحك من قلبي يا جماعة... مع إني راح مني ولاعة!».استمرت الحياة بفاتن حمامة رغم انفصالها عن عمر الشريف بينما انكسرت سعاد حسني لأنها لم تستطع أن تعيش من دون صلاح جاهين، ومزقتها الصدمة ثم الغربة إلى أن سقطت من شرفة بناية «ستيوارت تاور» في لندن، بينما سقطت فاتن حمامة في بيتها في منتجع القطامية نتيجة هبوط في الدورة الدموية!