يركز الكاتب محمد الحديني على مكونات السرد في إصداره "طيور تحلق منخفضة"، محافظاً على عناصر البنيوية خلال هذا الجنس الأدبي الذي يحتاج إلى التكثيف والمفارقة ومقاييس أخرى دقيقة.

Ad

ويستهل الحديني إصداره "طيور تحلق منخفضة" بنص قصير جداً بعنوان "تحديث" مسلطاً الضوء على حالتين متناقضتين الأولى متمثلة في حالة ركود الحياة، ثم عقب طول انتظار تأتي الحالة الثانية الفورة، وتتمحور حكاية النص حول صياد يبحث عن صيد ثمين بينما ثمة ظروف تجهض رغبته في تحقيق مبتغاه، فيأتي الرد ساخراً من السمكات: "هذا المكان لا تصلح فيه الطرق البدائية في الصيد".

واتسم النص بالإيجاز والإيحاء وكان عنصر الدهشة حاضراً، وعقب ذلك قدم الكاتب نصاً يتقاطع مع سابقه من حيث تركيب الجمل إذ يشهد تحولاً في الحدث موسوماً برمزية كبيرة، "لاسيما حينما سقطت قطرة من دمها داخل الكوب... وقدمته له... ارتشفه في تلذذ"، واستكمالاً للفكرة الرئيسة التي تمحور حولها النصان السابقان يأتي الثالث بعنوان "فورة"، معلناً استغرابه مجيء الربيع في غير موعده، ويلقي باللوم على من "أتوا به وأنبتوا أزهاراً بلاستيكية... رشوها بعطور غربية أدمنتها الزنابير، عندما زالت الرائحة سقطت الزنابير صرعى... داستها الأقدام فتعفنت".

حمل النص الأخير رسالة توضيحية لما جاء في ما سبق، فالربيع أزهاره ليست بلاستيكية وأجواؤه ناضجة لا يمسها العفن وتتمتع بالنضارة والحيوية.

حرية التعبير

وفي نص سوداوي جاء متوافقاً مع العنوان "كفن" ومن أجوائه: "متأبطاً ملفا يحوي أوراق روايته الأخيرة عبر الشارع قاصداً دار النشر الحكومية التي استجابت له بعد طول انتظار... سيارة فارهة تنتهك حد السرعة تتجاوز الإشارة الحمراء ترديه قتيلاً.. المارة يتجمعون يبحثون عن غطاء للجثة لا يجدون إلا أوراق روايته".

جاء النص مفعماً بالترميز مختزلاً حكاية كاتب حاملاً روايته مسروراً أن يرى عمله الإبداعي مطبوعاً بعد طول انتظار وبينما كان يمني النفس بتحقيق هذا الحلم اغتالته عجلات سيارة فارهة، ليثير النص إشكالية حرية التعبير والرقابة بشكل غير مباشر.

وفي التقديم للإصدار، كتب الأديب التونسي كمال القيرواني: "قرأت النصوص في مجموعة، وكانت مراوحة بين القصص القصيرة جداً جداً، والتي تتقلص وتتكور وتتجمع كما الزئبق حيناً حتى أنها لا تكاد تخوض لجة السطر والسطرين، وأخرى، تلين كما الماء وتنتشر وتفرد جناحيها بين ضفتي البلاغة والإبلاغ، فإذا هي ضاربة ومنتشرة في رقعة بصرية كبيرة، وتكاد تكون قصة عادية متوسطة الحجم".

وأضاف: "وبين هذا وذاك، وجدت قصصاً كما الأهازيج، لا هي مفرطة في الطول والتفرع، بمقياس القصة القصيرة جداً، ولا هي مفرطة في التحشم والاختزال، وإنما هي بين هذا وذاك، براق مربوع العقد من السرد الفاتن الذي لا يبالغ في التصريح ولا يوغل في التلميح، فكأنما أنت أمام غرف من المعاني، والمعاني أغراض شتى، وهي مادية ورمزية ومعنوية أيضاً، كما هو الشأن في مملكة الأدب عموماً وفي السرد خصوصاً".

ويرصد القيرواني ثلاث حالات سردية في محتوى الإصدار، مبيناً أن الحالة الأولى الوضوح الكامل في الكتابة الأدبية والكتابة السردية وهي الكتابة التي لا تتخفى وراء غمزة الإشارة ولا غنج العبارة، ولا تتقنع ولا تتمنع، أما الحالة الثانية فهي السرد الطلسمي الذي يجنح ويوغل في الاستعارة وحدها والرمز، المجرد بدون أملاح تخفف ولا توابل تلطف ولازيت يطيب ويكف ولا ماء يحلل العناصر، إنما هي نار موقدة هائجة غير محسوبة المسار وغير مدجنة، بينما الحالة الثالثة جاءت موغلة بالأدب الرمزي والسرد الذي ينبع من بئس الواقع، ويعب منها عباً".

نصوص معبرة جداً

من النصوص المؤثرة جداً والموحية بالكثير من الأمور، وفي مقدمتها

"قرار" "أسقطها من عينيه... فتعلقت بقدميه". و"طوفان" هدم بيته "خرجت الفئران تزأر". و"تلاش"، "ترك الحبل لخياله"، و"جمح بعيداً ولم يعد". و"طريد" "ذهب للعمل في البحر، فلفظه".

و"سرمدية" "كفروه"، و"لم يبالِ"، قطعوا رأسه، سالت أفكاره حبراً".

"سند" "اتكأت عليه فما زادها إلا انحناء".

"موتى" "أطل عليهم من قبره، ابتأس، قرأ لهم الفاتحة".

"أوغاد" "أطعمهم من جوع، عندما جاع، حدثوه عن ثواب الصوم".