"عيدكم مبارك وأيامكم سعيدة، وعساكم من عايد العيد".

Ad

ككل شيء في الحياة يتبدل العيد ويلبس ثوب اللحظة العابرة ولونها. عيدُ كلٍ منا في داخله، ونحن منْ يلوّن لحظات أعيادنا. كلٌ منا ينتظر عيده، ومنْ كانت فرشاة روحه زاهية الألوان فإنها ستلوّن لوحة عيده بالفرح، ومن كانت فرشاة روحه مغمّسة بسواد الطين والغم والألم، فليس له من عيد!

في صندوق ذاكرتي المليء بكثير من صور العيد، تبقى صورة واحدة الأكثر حضوراً بقلبي هي صورة وجه أمي، وشيء من فرح عابر يخضب صفحته ويعطرّها، بذاك العطر الدافئ الذي تستحضره روحي كلما مرّ بي شيء منه وأسرع يعيدني لحضن أمي!

كنتُ طفلاً، ربما في التاسعة، افترش عتبة باب بيتنا في فريج "القضيبي" في منطقة "شرق" أجلس وحدي، أنظر للجيران والناس العابرين بملابسهم الجديدة، وتدور الفكرة بروحي: العيد فرحة، فكيف هو شكل الفرحة، ومن أين ستأتي؟ وتكبر بي الأسئلة، أظل جالساً على عتبة باب بيتنا الأسمنتية، ولم أزل جالساً على عتبة ذلك البيت، ولم تزل الأسئلة تحيط بي!

تغيّر المجتمع الكويتي، وهذا أمر طبيعي، ولستُ ممن يتغنى بالماضي، فلكل لحظة مذاقها، لكني أرى أن تراكم التغيّر راكم معه مزيداً من عشق الاستهلاك، ومن المظاهر الاجتماعية الخادعة.

كان لأهل الكويت علاقة خاصة بالبحر، هو مصدر رزقهم، وهو سبيل متعتهم، وهو نديم العشاق. وكان لأهل الكويت علاقة بالصحراء، فهي وصل الأحبة، وصفاء الطبيعة، وخضرة الربيع. وكان لأهل الكويت علاقة بالزراعة، في "حولي" و"الجهراء" و"الوفرة" و "الفحيحيل"، لكن الكويتيين أداروا وجوههم للبحر، فابتعد عنهم وراح يتغنى مع أمواجه ويداعب صدفه. وهجروا الصحراء الصافية فتركتهم وطربت رمالها تغازل ضوء القمر. وأنكروا الزراعة، وسلّموها لغيرهم، فتخضبت أيادي الغير برائحة التراب وعطر الخضراوات الطازجة، التي لا يعرف سر بكارتها إلا من لامست أصابعه خشونة عشقها.

وحش المجتمع الاستهلاكي لوّث أرواح أبناء الكويت، وصار وحده السمة الطاغية على كل مناحي الحياة. فالكبير والصغير صار أسير "الماركة"، وصار متفاخراً برصيده المالي، والمنطقة التي يسكنها، والسيارة التي يركبها، والفستان والساعة والحقيبة والحذاء. وحش الاستهلاك تمكّن منا، وبخبث المرض الماكر أبعدنا عن كل لذة وأعمى أعيننا عن كل ما يحيط بنا!

ما عدنا ننظر إلى صفحة ماء البحر الرقراقة، ولا عادت أرواحنا تطرب لموسيقى أمواجه، ما عدنا نرفع رؤوسنا الى السماء ولا عاد لنا علاقة بنجومها. صرنا نمرّ على أي وردة في أي حديقة وكأنها جزء من الجدار الذي خلفها، واستوى عندنا العشب الأخضر اليانع بقطرات المياه التي تضيء وجهه، بقطعة قماش بلاستيكية خضراء تبعث على الموات!

وحش المجتمع الاستهلاكي، قتل في أرواحنا وصلنا بمباهج الطبيعة، وقتل فينا متعة الوصل مع كائنات الطبيعة الأجمل والأطيب! وصار الاقتناء والاقتناء هو من يحرك مشاعرنا، واستشرت لذة الشراء في دمائنا حتى أصبحت هي المتحكم في مقدار سعادتنا ورضانا عن أنفسنا.

ما يجب التنبه إليه أن أثر وحش الاستهلاك، لا يقف عند علاقتنا بالماديات بل، وهذا هو الأخطر، هو انتقاله ليشكل معياراً لعلاقتنا بالآخر، الإنسان، الصديق والزميل وأي إنسان يمر من أمامنا!

وحش الاستهلاك، صار يحرك فينا أمراض الحكم على البشر من أسمائهم وثيابهم ومحل سكناهم ونوع الحقيبة التي يحملون والساعة التي تزين مرفقهم، علماً أن محلات بيع الماركات المزورة صارت تتسابق في إتقان التزوير حتى صار من الصعب إدراك الفرق بين الأصل والمقلَّد.

دعوة عيد للعودة إلى شيء من الطبيعة، فهي دواء لكثير من أمراض أرواحنا المستعصية.