«هرج ومرج» في بغداد... واستقالة العبادي ليست مجرد إشاعة
في عز النهار تخترق سيارات دفع رباعي شارع السعدون في قلب بغداد التجاري، وهي لا تحمل لوحة أرقام، ويختفي ركابها وراء الزجاج المظلل الممنوع في العادة، ثم تتوغل في زقاق لبيع المشروبات الكحولية، فتقتل عددا من المسيحيين والمسلمين، وتغادر مسرعة لتدهس في طريقها عابر سبيل وتصدم سيارة مدنية، وتخلف وراءها فوضى عارمة في السوق.الجميع يعلمون هوية هذه السيارات والمسلحين: إنهم ميليشيات شيعية! ولذلك لم يجرؤ أي شرطي أو جندي على الوقوف في وجههم حين نفذوا عملية شارع السعدون مطلع الأسبوع الجاري، لكن لا أحد يتفوه باسم الفصائل التي تنفذ هذه الهجمات، لأنها أصبحت "فرق موت" تتحدى سلطة الحكومة وتتجاهل حتى توصيات المرجعية الدينية في النجف.
الصحافيون الذين كانوا يتفاخرون بقدرتهم على انتقاد سياسات نوري المالكي رئيس الحكومة السابق المعروف بشراسته، يعجزون اليوم عن تسجيل أي اعتراض جاد على هذه الجماعات، التي تلعب دورا مزدوجا، فهي من جهة ساهمت في كبح جماح "داعش" لكنها في الوقت نفسه، تتصرف كدولة داخل دولة، وقد وصل الأمر الى مرحلة اختفاء الدولة في أحيان كثيرة، وخضوعها لرغبات مراكز القوى الاجتماعية الداعمة لفصائل المسلحين الشيعية، وفي أحيان كثيرة لم يعد في وسع أي رجل أعمال أن يمارس أنشطته دون إبرام صفقة مع فصيل مسلح، ودفع أتاوة معينة له، بل إن الأمر الذي يثير السخرية أن محلات اللهو الليلي المحدودة في بغداد، لا تضمن أيضا سير أعمالها إلا باتفاق مالي خاص مع الميليشيات.ومنذ عطلة نهاية الأسبوع بدأ المؤمنون الشيعة بالسير على الأقدام في شوارع بغداد الرئيسية، نحو منطقة الكاظمية شمالي العاصمة، إحياء لذكرى مقتل ثامن إمام شيعي هو الكاظم موسى بن جعفر، حيث يذهب مئات الآلاف لزيارة مرقده ذي القبة المزينة بالذهب، لكن الأمر أدى إلى قطع الشوارع الرئيسة وإصابة الحياة بالشلل، وتوقف كل الأنشطة والأعمال، ويستغرق طقس العزاء يوما واحدا، لكن تدفق الزائرين وقطع الشوارع الرئيسة سيتواصل على مدار اسبوع، ويضيف إلى لوحة "الهرج والمرج" في بغداد، سببا إضافيا لدفع كثير من الناس لملازمة بيوتهم هذه الأيام، خاصة مع تصاعد الهجمات بالسيارات المفخخة التي تستهدف هذا الطقس الديني.وعلى وقع هذا، لا ينقطع حديث الصالونات السياسية، عن خلاف حاد يتفاقم داخل "البيت الشيعي" بين أنصار حكومة حيدر العبادي وهم معتدلو الشيعة ومرجعية النجف، وفصائل أخرى للحشد الشعبي والميليشيات مدعومة من إيران، التي بات مشروعها في إنشاء نفوذ عسكري وسياسي، أمرا واقعا. ووصل الأمر الى أن يتحدث مقتدى الصدر نفسه الاثنين عن "الخلافات الحادة التي تعصف بالبيت الشيعي"، بل إن الجميع يتداول شائعة استقالة رئيس الحكومة حيدر العبادي، الذي يشعر أنه أصبح بلا سلطة حتى في شوارع بغداد. أما العارفون بكواليس السياسة العراقية فيقولون إن الأمر ليس مجرد شائعات، مؤكدين أن العبادي وزع نسخا من استقالة مكتوبة، على عدد من زعماء الأحزاب الشيعية ورجال الدين النافذين، في محاولة لرسم مستوى الخطر المحدق بالنظام السياسي المفكك.