بعض الأفلام، كالحب من أول نظرة، تقع في غرامه منذ الوهلة الأولى، بسبب ما يحمله من عناصر جذب، وجاذبية، وقدرة على أن يخطف حواسك، ويملك مشاعرك، ويثير فيك الرغبة في الإلمام بالكثير من المعاني والأفكار والصور التي تطرحها، وتتبناها، وهو ما ينطبق بالضبط على  الفيلم الروائي التونسي القصير «ليلة القمر العمية» (20 دقيقة) للمخرجة خديجة فاطمة لمكشر، التي أظهرت رهافة حس، وبراعة فائقة، وهي تستوحي أحداثاً حقيقية ذات صلة وثيقة بظاهرة «العنوسة» التي تمثل مشكلة مستعصية في المجتمعات العربية، إذ ربطت بينها والأسطورة والتراث، ووظفت كل ما تملك من موهبة، وحرفة، لتحكي مأساة الفتيات الثلاث: «عيشة» (رشا معاوية) و{تبر» (آية فرجاني) و»بوكا» (أريج سباعي) اللائي لم يتجاوزن السابعة عشر من عمرهن، ورغم هذا حُكم عليهن بأنهن اقتربن من «البورة» (العنوسة)، ولم يعدن مطمعاً للرجال. وكن كماً مهملاً بين أفراد عائلاتهن، فالأولى لم يغفر لها والدها أنها كانت سبباً في موت والدتها أثناء ولادتها، وأسقطها تماماً من حساباته، والثانية حرمها والدها من التعليم لأنها أنثى، والثالثة لا تجيد شيئاً في الحياة، ولا تتوقف أمها عن عقابها. ومن ثم لم يجدن وسيلة للهروب من قهر المجتمع الذكوري، والخلاص من «العنوسة»، سوى الوقوع في براثن الخرافة، والارتماء في أحضان الدجالة «ليلا» (فاطمة بن سعيدان )، التي تستعير طقساً فرعونياً، وتُدخل في روعهن أن الخلاص سيأتي مع اكتمال القمر، الذي بيده «حل القيود وجلب السعود». لكن أم البطلة «عيشة»، وعماتها، يراودهن الشك في أنها ارتكبت الإثم عندما غادرت البيت في الخفاء، وعادت مع الساعات الأولى للصباح، ويعاقبنها بأن يضعن الفلفل الأحمر في عينيها فتُصاب بالعمى.

Ad

مأساة اجتماعية تعكس مدى ما وصلت إليه مجتمعاتنا العربية من جهل وتخلف، وازدراء للمرأة، نجحت المخرجة المبدعة خديجة فاطمة لمكشر في رصد تداعياتها، وبشاعتها، عندما انطلقت من القبح لتصنع قطعة من السحر والإبهار، بفعل التصوير، الذي استثمرت فيه جماليات البيئة والطبيعة والأسطورة. فالحركة الدائرية للكاميرا وهي ترصد الفتيات الثلاث وهن يتطلعن إلى القمر تُشعرك بأن القمر هو الذي ينظر إليهن، ويُشفق على أحوالهن ومصائرهن، والشموع ثم ضوء القمر صارت مصدراً لإضاءة أدَّت دوراً درامياً، فالقمر تنعكس صورته على القصعة لتتحقق التعويذة، و{عيشة» تقبض في كفها على قبس نور من القمر، وكأنها قابضة على الجمر، بينما أضفت الاستعانة بالأغنية التراثية مسحة جمالية وشجناً، فضلاً عن التوظيف الذكي لكلماتها التي تقول: «يا فرعون طول شعري وكبر قعري كُبر نخلة سحنون»، وهو الذكاء نفسه الذي دفع المخرجة إلى الالتجاء إلى التحايل، عبر استخدام المسحة اللونية للإيحاء بتعاقب الليل والنهار، ومرور الزمن، في مشهد تردد «تبر» و{بوكا» على بيت «عيشة» للسؤال عنها، وطرد أمها لهما من دون أن تكشف عن جريمتها في حقها.

مع البراعة الفائقة، واللمسة التي تعكس حساً تشكيلياً  للمخرجة في تكوين «الكادر»، تميَّزت بإدارتها السلسة لطاقم التمثيل، وهو ما ضمن لها استخراج أفضل ما في جعبة ممثلاتها، خصوصاً رشا معاوية، التي أدت دور «عيشة»، واتسمت ملامحها بالبراءة، بالإضافة إلى أريج سباعي (بوكا) وآية فرجاني (تبر) والممثلة التونسية القديرة فاطمة بن سعيدان، التي جسدت دور «ليلا» واستثمرت خبرتها الكبيرة في إضفاء مسحة من الغموض على شخصية الدجالة التي تستغل براءة الفتيات، وجاءت الإضاءة لتُكمل الغموض، وتصورها في ثوب الساحرة الشريرة.

شاركت المخرجة خديجة فاطمة لمكشر الدكتور يوسف الصديق في كتابة سيناريو فيلم «ليلة القمر العمية»، الذي استوحته من أحداث واقعية، لهذا لم تنس أن تُصَدر الفيلم بعبارة  «إهداء إلى ابنتي عيشة»، وأكبر الظن أنها رأت في «عيشة» صورة مئات، وربما ملايين، الفتيات اللائي قادتهن ظروف الفقر والقهر والكبت والذل والهوان إلى نفس المصير المؤلم الذي فضحته في فيلمها. لكنها أبت أن تُنهي الفيلم بهزيمة وانكسار بطلتها، وإنما تشبثت بأن تنتصر لها، ولإرادتها في تغيير واقعها، ومن ثم رأينا «عيشة» الكفيفة، وهي تغادر سجنها الذي اختارته لها أمها، والمجتمع، وتهجر قريتها، وعالمها الذي ظلمها، وتسير على هدى القمر الذي ما زالت تحتفظ بقطعة منه، وتؤمن بأنه يحمل الخلاص لها من واقعها البائس.

أدركت وزارة الثقافة التونسية أهمية فيلم «ليلة القمر العمية»، وأيقنت أنه يُكمل رسالتها، وربما يتفوق على نهجها في تفكيك المشكلات الاجتماعية والنفسانية، عبر معالجة فنية لا تغيب عنها الرؤية الفكرية، واللمسة الجمالية، فما كان منها سوى أن بادرت إلى دعمه، ولم تبخل عليه بالمؤازرة المعنوية، وأيدت ترشيحه للمشاركة في مسابقة «المهر القصير» بالدورة الحادية عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي فكان عرضه العالمي الأول ,لكن لجنة تحكيم المسابقة كان لها رأي آخر عندما حرمته من جائزة كان يستحقها عن جدارة!