حدث أن شدة الهوى كانت تضنينا، كان يتعبنا فرط الحب فنذبل. نشغف بالحبيب إذ يصيب حبه قلبنا ويسيطر علينا. ربما نمرّ بصراعات كثيرة وتحديات فنحاول التصدي لها والتمسك بحبنا. ولكن في عالم الاستهلاك والتواصل الإلكتروني كثُرت فرص الحب وتنوَّعت، وخلت الرومانسية من المخاطر. صار للحب شكل مختلف من الرغبة والمتعة.

Ad

انفلاش الحب الراهن هذا لا يعزّز مكانته بحسب الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، الذي يؤمن في كتابه {في مدح الحب} (ترجمة غادة الحلواني، عن دار التنوير 2014) بأن الحب مهدَّد. بالنسبة إليه، {الحب مشروع وجودي، حدثٌ يغيّر فردَيْن إلى الأبد، يتحدّاهما لينظرا إلى العالم نظرة اثنين لا نظرة واحدٍ}. وهذا التحدي، كما يؤمن باديو، {أهم طاقات الحب. الحب هو خبرة اثنين، هو الاندماج المخلص داخل الفكرة، خلال حدث اللقاء والإخلاص الذي يتكوَّن، نخلق معاً اثنين بعدما كنا وحيدَيْن، الرغبة الأنانية ليست حباً!}.

يأتي كتاب {في مدح الحب} على صيغة حوار بين الفيلسوف آلان باديو وبين الصحافي نيكولا ترونغ. يغرف فيه الأول كثيراً من مرجعياته عن الحب، من التراث الكلاسيكي لمشاهير العشّاق في التاريخ، وفي الأدب مثل {روميو وجولييت} و{تريستان وايزوت} و{ليلى والمجنون}.

يقدم باديو مجموعة من الأفكار عن الحب في عالمنا المعاصر. يعتبر أن لحظة يتعلَّق المرء بحبال الحب، فإنه يكون قد خاطر بإمكان السقوط في الألم والخطأ وخيبة الأمل. لكنه، أي الحب، يعطي مع ذلك الحياة دلالة و{كثافة}. ويكثر المؤلف من استعادة بعض أقوال مشاهير الثقافة مثل {الحب ينبغي اختراعه من جديد} للشاعر الفرنسي آرتور رامبو، و{الحب هو التحرر من أمر ما كان يبدو وكأنه مستحيل} لبول كلوديل.

يناقش باديو علاقة الفلاسفة بالحب، يتحدَّث عن روابط متنوعة أقاموها مع هذه العاطفة الإنسانية مستحسناً كتاب أود لونسلان وماري لوموانييه {الفلاسفة والحب، أُحِب من سقراط إلى سيمون دي بوفوار}، وهو بحث في حياة الفلاسفة التي تميزت بأطروحتين في الحب: الأولى، فلسفة مناهضة للحب يمثلها الفيلسوف الألماني شوبنهاور الذي لم يتسامح أبداً مع المرأة لأنها تملك انفعال الحب، الذي بفضله تحقق إمكان تخليد النوع الإنساني، علماً أن وجوده من دون معنى أو قيمة}. والثانية، الفلسفة التي تجعل من الحب المرحلة الأسمى للتجربة الذاتية، ويمثل هذا الاتجاه الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد.

يعتبر باديو أن {من دون الحب لا توجد فلسفة}، ويشرح هذه المقولة بالاعتماد على الفيلسوف أفلاطون الذي أقام، كما يؤكّد باديو، علاقة وثيقة {لا انفصام لها} بين الفلسفة والحب. ذلك على أساس أن الفلسفة في صميمها هي {حب الحقيقة}، بالمعنى العميق للكلمة.

أبعد من الفلسفة، الحب هو الحقيقة بالنسبة إلى الفيلسوف. من يعرف الحب، بالمعنى الأسمى للكلمة، وليس بالطريقة التي اختزله إليها مجتمع الاستهلاك، يكون قادراً على التعرّف إلى الحقيقة. كذلك ينتشل باديو {حبه} بعيداً من الرومانسية، يخلصه من الصيغ القانونية الجامدة كافة، يتصوَّره نوعاً من إنتاج {حقيقة عن العالم} بصياغة كائنين، ذلك أنه: {ينبغي إعادة اختراع الإحساس بالمخاطرة والمغامرة، ضد الركون إلى الأمان والرفاهية. الحب هو سلوك الحقيقة... الحقيقة المنقسمة على اثنين. عالم واحد ينقسم فيه الكائن إلى اثنين}.

مشروع وجود

الحب مشروع وجود يراه باديو لا ريب. يذهب إلى قول أوستروفسكي الشاعر: {قالت قطعة الجليد، وقد مسها أول شعاع من أشعة الشمس في مستهل الربيع: أنا أحب، وأنا أذوب، وليس في الإمكان أن أحب، وأوجد معاً؛ فإنه لا بد من الاختيار بين أمرين، وجود من دون حب، وهذا هو الشتاء القارس، أو حب من دون وجود، وذلك هو الموت في مطلع الربيع}. من هذا المنطلق، الحب كما يقول باديو مشروع وجود يبدأ بفرصة تلوح لتغيير يحدث لشخصين ويتحداهما ليعاينا العالم من وجهة نظر شخصين. الحب {رغم خوف البعض منه، هو محور اهتمام البشرية جميعها وإلا ما ظهرت تلك القصص والحكايات والأفلام كلها عنه. تغنى هوميروس بحب باريس لهلينا في الإلياذة، وتغنى دانتي بحب بياتريس، وتغنى شكسبير بحب روميو لجوليت، وتغنى غوته بحب فاوست لمرغريت، وتغنى تولستوي بحب أندرو لنتاشا}.

بحسب المؤلف، ليس الحب مجرد لقاء وعلاقات مغلقة بين فردين، بل هو بناء، إنه حياة تظهر وتتكوّن من وجهة نظر الاثنين لا الواحد، وهذا ما يصفه باديو بـ {مشهد الاثنين}. والأخير عنوان محاضرة ألقاها في مدرسة الدعوى الفرودية خلال السنة الدراسية 1998-1997 اعتماداً على شرح مبدأ عالم النفس جاك لكان القائل بأن الحب يأتي لتعويض الحرمان من العلاقات. وبأسلوبه، يعلن لكان بأن الحب هو اقتراب أو تصادم: {الكائن هو الحب الذي تحقق في لقاء}.

أسئلة كثيرة يطرحها الكتاب تدل على واقع الحب ومفارقاته، وتحضر هنا الأفلام الكثيرة التي تتناول الحب، والروايات، والأغاني... يبدو أن في الحب شيئاً عالمياً، لأن هذه القصص المصورة والمكتوبة والمسموعة يهتم بها جمهور واسع من الناس، وكل حب يعبر عن تجربة جديدة لحقيقة وجود اثنين.

ذلك كله لا ينتصر من دون {وفاء}، مفهوم يستعمله باديو باعتباره انتقالاً من لقاء نتج من مصادفة إلى بناء متين، لتظهر قوته وكأنه ضروري. والوفاء في الحب يعبِّر عن انتصار بعيد المدى، لأن مصادفة اللقاء تخضع يوماً بعد يوم لاكتشاف ديمومة في ميلاد العالم.

ولكن الحب كإجراء من إجراءات الحقيقة لا يمكن أن يكون دائماً في سلام، لأنه يشمل على صراعات عنيفة ودرامية، وعلى آلام حقيقية ودموع وفراق، وعلى انفصالات قد لا نشفى منها. إنها إحدى التجارب الأكثر قساوة في الحياة الذاتية.

تكثر صور الحب لدى الشعراء والفلاسفة والمسرحيين. هو فكر، قال الشاعر البرتغالي فرناندو بِسُوا، وهذا المعطى يبدو كمفارقة، لأن الحب ارتبط بالجسد، وبالرغبة، وبالانفعال، وبكل ما ليس له علاقة بالعقل أو الفكر.

هذا بعض أفكار باديو التي تحكي عظمة الحب وما يهدده، تناقش علاقته بالفلاسفة، وترى إليه معانقاً الحقيقة، والفن، والسياسة.