يتخبّط الشرق الاوسط عموماً والعالم العربي خصوصاً في مخاض ما يعرف بـ{الربيع العربي}. الشعوب العربية تريد التحرّر من الطغاة الذين استبدوا بها طوال سنواتٍ خلت وتسعى بكلّ جوارحها الى الانعتاق من  الدكتاتورية والسير بخطى واثقة نحو مستقبلٍ أفضل. ولكن في معظم البلدان العربية من تونس الى مصر الى سورية الى العراق لا يبدو المستقبل واعداً. بل بالعكس تدور تجارب الربيع العربي حتى الآن في فلكي الفوضى والعنف. لم يثمر الربيع العربي حتى اليوم ازدهاراً وحياةً رغيدة، بل تزامن مع حلقاتٍ دورية من العنف والتشتّت وحتى التشرّد في بعض البلدان. ويذهب البعض الى حد القول إن الشباب المثقفين الذين أطلقوا شرارة ثورات 2011 ليسوا بالضرورة حماة قيام شرق أوسط جديد يتّسم بالعلمانية. بل لعلّ هؤلاء فريقٌ عالقٌ في نزاعٍ مريرٍ حول القضايا المحورية الاساسية كمسألة الهويات والنظام الاجتماعي والسياسي المنشودين. وهو طبعاً نزاعٌ غامض الملامح لا يشي بنتائج معروفة وقد يؤدي الى مزيد من الدمار والضياع خصوصاً في ظلٍ مجتمعات عربية أظهر التاريخ أنها لا تجيد إلا إنتاج نماذج جديدة من الاستبداد والسلطوية والزبائنية. فهل العالم العربي قادر على إنتاج ديمقراطية حقة أم أنه محكوم بالعيش دوماً تحت {كنف الدكتاتور}. روبرت فورث سلّط الضوء على المسألة في النيويورك رفيو أوف بوكس مستعيناً بكتابين مهمين: {العرب الجدد أو كيف يغيّر جيل الألفية الشرق الأوسط} لخوان كول عن دار سيمون وشوستر، و{مغريات السلطة: الإسلاميّون والديمقراطية غير الليبراليّة في شرق أوسطٍ جديد} لشادي حميد عن مطبعة جامعة أكسفورد.

Ad

كثيراً ما يقال إنّ اتّقاد الغضب الطائفي الأخير مصطنع بجزءٍ كبيرٍ منه، وقد أجّجه عمداً الأسد في سوريا مع حّكامٍ مريبين آخرين يحتاجون إلى تبرير التهديد باستخدام العنف الذي يحمي عروشهم. من الخطأ حتماً، على غرار ما حصل في البوسنة، اعتبار منطقةٍ ما وعاءً محتدماً يزخر بـ}الأحقاد القديمة} ولا يقبل أيّ علاجٍ حديث. لكن بعد ثلاث سنواتٍ من الفوضى، أمسى هذا التفريق أكاديمياً إلى حدٍّ ما. يملك الحكّام الذين ساهموا في إيقاظ المارد الطائفي (بمساعدةٍ كبيرة من الولايات المتّحدة في العام 2003) ما يكفي من النفط والأسلحة حتى يبقوا هذا الأتون مشتعلاً لوقتٍ طويل للغاية. غدت إيران والسعودية طرفي نزالٍ على مستوى المنطقة يعزّز الأنماط كافّةً – السياسية والدينية والاقتصادية – التي أمل المتظاهرون الليبراليّون في ساحة التحرير في تجاوزها.

قد يشكّل قمع إيران الفعّال ثورتها الخضراء التي لم تدم في منتصف العام 2009 إلى حدٍّ ما حدثاً مصغّراً موازياً الأحداث التي عصفت بالعالم العربي في السنوات الثلاث الأخيرة. قد يحصل تغييرٌ في إيران، لكنّ انبثاق الآمال الليبرالية الوجيز – يرافقه إعلانٌ جهور عن دور الشباب المُعَلمن – استُبدل بنظرةٍ أكثر حذراً وقتاماً إزاء المستقبل.

بدت الحركات الشبابية العلمانية في العام 2011 أكثر قوّةً، وهذا يعود بجزءٍ كبير إلى أنّها تمكّنت لفترةٍ وجيزة من توحيد جهودها مع جهود الإسلاميّين والحركات العمّالية: تركيبةٌ تحقّقت بفعل سوء حكم البعض الكارثي، كزين العابدين بن علي في تونس، ومعمّر القذافي في ليبيا ومبارك (أخبرني عددٌ من الشباب في ساحة التحرير في العام 2011 بجديّة أنّهم ممتنّون لمبارك، إذ إنّه السبب وراء تصالحهم مع خصومهم في الإيديولوجيا). لكن ما لبث أن عادت التصدّعات لتظهر، بيد أنّ كثيرين ظلّوا متفائلين بفعل اعتقاد – يسود في الغرب أكثر منه بين العرب – مفاده أنّ تسلّم زمام السلطة سيجعل حُكماً الإسلاميين السياسيين، الذين يطمحون أثناء حكمهم البلاد إلى فرض الشريعة الإسلامية، أكثر اعتدالاً. إنّ جورج بوش الابن صاغ قبل عقدٍ من الزمن على نحوٍ معروف من بين آخرين ما سُمّيَ اصطلاحاً {نظرية الحفرات} التي تعتبر إنّ تحمّل المسؤولية أمام الهيئات المكوّنة يجعلك تصبّ تركيزاً أقلّ على الإيديولوجيا منه على الحَوكمة اليومية.

يرى حميد أنّ هذا المبدأ المفعم بالأمل تدحضه إلى حدّ كبيرٍ تجربة السنوات الأخيرة. ازدادت الأحزاب الإسلامية في مصر والأردن وتونس اعتدالاً في خلال العقدين الأخيرين أثناء فترةٍ من قمع الحكومة المتجدّد لا الديمقراطية. ويكتب: {لم يكن ثمّة قطّ أيّ سببٍ للاعتقاد أنّ عملية الاعتدال هذه ستستمرّ إلى أجلٍ غير مسمّى في ظلّ مجموعةٍ مختلفة تماماً من الظروف. بعض الأحزاب الإسلامية كالتي في تونس مثلاً أكثر استعداداً للتوصّل إلى تفاهم مع الديمقراطية الليبرالية أكثر من غيرها. لكن الأحزاب الإسلامية كافّةً، بحكم تعريفها أقلّه، غير ليبراليّة بعض الشيء}.

في الواقع، دُفعت الأحزاب الإسلامية نحو مزيد من الرجعيّة في مواقفها في خلال الانفتاح الديمقراطي الذي تلا سقوط مبارك وبن علي في تونس، ويرجع ذلك أساساً إلى الحاجة إلى أن تميّز نفسها عن خصومها. واجه الإخوان المسلمون منافسةً شرسةً على يمينيّتهم من الأحزاب السلفية الرجعية اللدودة التي برزت حديثاً على الساحة المصرية. وعلى الرغم من أنّ شخصيّاتٍ عديدة إخوانيّة – لا سيّما محمد البلتاجي – قالت بالولاء للشراكة مع الليبراليّين التي أبصرت النور في ساحة التحرير، إلّا أنّ آخرين طالبوا بتحرّك نحو اليمين.

أدّى هذا الضغط التنافسيّ أيضاً بالإخوان إلى خطأٍ كارثي، أي قرارها ترشيح أحدهم للرئاسة في انتخابات العام 2012. لطالما اعتمد قادة الإخوان مقاربةً تدريجية، محذّرين من أنّ من شأن أيّ حركةٍ نحو موقفٍ سياسي مهيمن أن توحّد خصومهم مكرّرين كارثة العام 1954، عندما أصدر الرئيس المصري جمال عبد الناصر قرار حظر الجماعة وطمسها. لكن في العام 2012، وإذ واجه قادة الجماعة الأكبر سنّاً احتمال أن يدير مرشّح رئاسي سلفي أكثر رجعيّةً دفّة القيادة ويغتصب المشروع الإسلامي، فازوا في تصويتٍ داخلي ضيّق لصالح تسمية مرشّحٍ ما. ولم يستغرق الأمر أكثر من سنةٍ حتى تحقّقت مخاوف جماعة الإخوان القديمة.

الدولة الإسلامية

استحوذ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على الاهتمام العالمي بمقاربةٍ جديدةٍ وجريئة للعلاقة بين الإيديولوجيا والحوكمة. على الرغم من أنّ التنظيم يشتهر بقطع الرؤوس الرهيب، إلّا أنّه غالباً ما يُروّج لجهوده الإدارية الطموحة – بما فيها تأمين كهرباء أفضل والمياه وحفظ الأمن – في الرقة، المدينة السورية التي باتت تسمّيها عاصمة الخلافة التي أعادت تأسيسها. يمثّل هذا الاستثمار في المؤسسات تحوّلا مدهشاً في الاستراتيجية الجهادية، ويبدو أنّه متجذّرٌ في كتابٍ نُشر على الإنترنت في العام 2004 يُدعى {إدارة التوحّش} من تأليف أبو بكر ناجي، أحد منظّري السفلية الجهادية. يجنّد داعش اليوم الشباب العربي على الإنترنت بنوع جديد ومثيرٍ للفضول من الرسائل: يمكنك أن تموت في مجد عظيمٍ، أو أن تعيش حياةً سعيدةً في دولةٍ إسلامية تُدار بشكلٍ جيّد (على الرغم من أنّ الطائرات الأميركية التي تلوح فوق قواعد التنظيم في سوريا قد تدفع ببعض المجنّدين إلى التفكير مرّتين).

أمّا في باقي الشرق الأوسط، فجيل الألفية العربي منقسمٌ أكثر من أيّ وقتٍ مضى. أخذ أحمد ماهر، وهو ناشط يُعجب كول للغاية، موقفاً مبدئياً ضدّ كلٍّ من الإخوان المسلمين والنظام الجديد الذي يقوده الجيش برئاسة عبد الفتّاح السيسي، وهو اليوم ملقى في السجن نتيجةً لذلك. لكنّ ماهر يغرّد وحيداً، فقد أيّد كثيرون آخرون من الشباب العلماني صراحةً التفريق العنيف لاعتصام الإخوان الذي أودى بحياة ما لا يقلّ عن 638 قتيلاً في القاهرة في العام الماضي. يشكّل الشباب الليبي جنود المشاة وسط أرخبيل الميليشيات المتصارعة في ذاك البلد. لم يندثر الليبراليّون، لكنّهم ليسوا بالضرورة شباباً؛ فإنّ معظم الشخصيات البارزة التي عارضت الميليشيات الليبية – بمن فيها بعضها الذين اغتيل لموقفه الشجاع – كانوا أناساً أكبر سنّاً بلغوا سنّ رشدهم قبل جيل الألفية بأشواط.

حاول كثيرون من الأعضاء الأصغر سنّاً المنتمين إلى جماعة الإخوان في مصر وإلى حركات إسلامية أخرى طوال السنة الماضية أن يحثّوا الجماعة على استقاء الدروس من أخطائها والتأقلم مع مقاربةٍ أكثر انفتاحاً وأقلّ تعنّتاً في أمور السياسة. لم يكن ذلك بالأمر السهل، إذ إنّ القيادة العليا في الجماعة لا تزال معتقلةً، ويواجه كثيرون منها حكماً بالإعدام. أمّا الذين فرّوا وبات أغلبهم يعيش بين الدوحة وإسطنبول، فقد مذكّرات داخلية يقرّون فيها بأنّه وجب عليهم أن يولوا أعضاءهم الأصغر سنّاً اهتماماً أكبر، فهؤلاء كانوا يطالبون بتنازلاتٍ أهمّ لصالح الليبراليّين وجهودٍ مشتركة لتفكيك مخلّفات نظام مبارك. وقد بدأ بعض هؤلاء الشخصيات الأصغر سنّاً بمحاولة إعادة إيجاد أرض مشتركة مع مزيد من القوى الليبرالية والعلمانية، وغالباً خارج مصر. لكنّ مساعيهم لم تُكلّل بالنجاح إلى الآن.

حلفاء محتملون

لا تزال الجماعة في قبضة رجالٍ مسنّين متعنّتين يصرّون على أنّ مرسي لا يزال رئيساً لمصر، وأن لا مجال للوصول إلى أيّ تسوية مع نظام الانقلاب في القاهرة وأنّ جماعة الإخوان لا يسعها الاعتراف بأيّ خطأٍ اقترفته حتى تسترجع حقوقها. أخبرني كثيرون من أعضاء الجماعة الأصغر سنّاً بإحباطٍ شديد في خلال الأشهر الأخيرة أنّ هذا النوع من خطاب التعنّت هو الذي يستعدي الحلفاء المحتملين، وأنّهم يحلمون باستلام زمام الأمور وقيادة الإخوان في اتّجاه أكثر {ثوريّةً}. لكنّ هؤلاء الإسلاميين الأصغر سنّاً باتوا اليوم يواجهون معضلةً حدّدها حميد: كلّما ازدادوا مرونةً، ابتعدوا أكثر عن جذور حركتهم الدينية ومصادر جاذبيّتهم في الشارع (ناهيك عن الدعم المالي الذي يقدّمه بعض المتبرّعين الرجعيّين المقيمين في الخليج الذين لا يُطرب آذانهم الخطاب {الثوري}).

لا بدّ في مرحلةٍ ما لمبدأ السيادة الشعبية أن يصطدم بالإيمان بالإرشاد الإلهي. لقد أمضت جماعة الإخوان المسلمين في مصر وحركاتها الشقيقة، مثل حزب النهضة في تونس وجبهة العمل الإسلامي في الأردن، سنيناً في إصرارها أمام الأجانب على أنّ إيمانها بالديمقراطية جوهري وأنّها لن تفرض أبداً الشريعة على المجتمع إلّا إذا طالب الشعب بذلك. بيد أنّ هذا الكلام كان دائماً محض حيلة، إذ إنّ الاختباء وراء كلامهم العلني عن دعم حكم الأغلبية يضمر قناعةً من الإخوان بأنّ الناس سيطالبون بتطبيق أحكام الشريعة. إن لم يكن الأمر كذلك، فلمَ تكبّد عناء السياسة في المقام الأوّل؟ إنّ جماعة الإخوان، بعد كلّ شيء، نشأت كجهودٍ شعبية بادئ ذي بدء لأسلمة المجتمع، ولم تضع قطّ برنامجاً سياسياً واقتصادياً متّسقاً أو مركّزاً.

قد تتكلّل حملة حكومة السيسي ضدّ الإخوان بالنجاح، أقلّه بالمعنى الضيّق. والآن إذ تمّ طمسها، وانقسم أعضاؤها بين حرسٍ قديم متعنّت وجيل عاجزٍ أصغر سنّاً واعتُقل كثيرون منهم، قد تتلاشى جماعة الإخوان شيئاً فشيئاً. أو أقلّه هذا ما قاله لي في يونيو أحمد نشار، شابٌّ إسلامي يعيش حالياً في إسطنبول، كان قد عمل لدى مرسي في خلال العام الذي تبوّأ فيه السلطة. ويستدرك: {لكن في الوقت عينه، لم يجد الإخوان بديلاً واضحاً. أعتقد أن هذا هو أصعب وضعٍ واجهته جماعة الإخوان المسلمين قطّ. قادتها معتقلون وثمّة في الوقت عينه تحدٍّ داخلي بالغ الأهمية يعترض العقلية التي لطالما أدارت المنظّمة}.

تصنيف الإسلاميين

حتى بروز داعش بديلاً راديكالياً، ما قد يبدو بادئ ذي بدءٍ أنّه يثبت اعتدال الإخوان النسبي، أكّد على ضعفهم. على الرغم من أنّ قادة الإخوان استنكروا صراحةً البربريّة التي تسم داعش، إلّا أنّهم ينافسونه – إلى حدٍّ ما - على الجمهور عينه، وغالباً ما تلمّح تعليقاتهم إلى استمرارية ضمنية للحسّ الإسلامي. لم يشجّع هذا الأمر بعضاً من مناصري السيسي إلّا على تصنيف الإسلاميّين جميعاً في خانةٍ واحدة، وقد يساهم أيضاً في دفع بعض المعتدلين الغاضبين نحو العقلية الجهادية.

لا يزال مناصرو جماعة الإخوان إلى الآن يبدون صبراً غير عادي، وبالكاد انزلق بعضهم نحو ردٍّ عنيف، حتى من بين أولئك الذين فقدوا أقرباءهم في مجازر الصيف الماضي. انتشرت حملة خجولة من أعمال التخريب في مصر في خلال العام الماضي، تعمّدت غالباً إحراق سيّارات الشرطة، بتشجيعٍ هادئٍ من بعض أعضاء الجماعة. يمكن أن تزداد هذه الوتيرة، خصوصاً فيما تتّسع الفجوة بين القيادة الغائبة والقاعدة المستاءة.

وفي الوقت نفسه، بدءاً من اليمن ومروراً بالمشرق وصولاً إلى ليبيا، تكرّ سبحة الدول الضعيفة والمجموعات المتمرّدة على أنواعها التي تجمع لنفسها زخماً شعبياً. يُستخدم العاطلون عن العمل من جيل الألفية العربي زيتاً يُصَبّ على نار هذه المأساة غير الحصينة في وجه فتنٍ على أساس حقدٍ طائفي ونزعاتٍ انفصالية أو حتى فوضويّة عبثية.

إنّ الغزوة الجهادية المأساوية شمالي وغربي العراق في يونيو التي ما كانت لتتحقّق لولا دعم سنّة العراق الأقلّ تشدّداً، لكن المشتعلين غضباً لا يقلّ عن غضب الجهاديّين، لم تؤدَّ إلّا إلى تغذية توق الكثير من الشباب للمشاركة في خلافةٍ أعلن عنها بعد فترةٍ وجيزة. قد لا يشكّل داعش خطراً مباشراً على أيٍّ كان خارج سوريا والعراق في الوقت الراهن. لكن في نهاية المطاف، من المزمع أن يعود كثيرٌ من مقاتلي هذا التنظيم ومقاتلي المجموعات المشابهة إلى أوطانهم، بمن فيهم أعداد كبيرة من التونسيين والمصريين. لن يعتريهم أيّ خوفٍ، وسيكونون مدرّبين أيّما تدريبٍ. وكونهم شباباً، تقبع سنونٌ عديدة بانتظارهم.

التجربة التونسية

في تونس، تصرّف الإسلاميون بانضباطٍ أكبر. مردّ ذلك في جزءٍ منه، على حدّ قول كول، إلى أنّهم واجهوا خصوماً جبّارين، بمن فيهم حركةً شبابية علمانية مفعمة بالنشاط نجحت في عقد تحالفاتٍ مع عددٍ من اتحادات النقابات القوية. ويعود كثيرٌ من الفضل إلى رشاد غنوشي البالغ 73 عاماً وقائد حزب النهضة الإسلامي، وهو شخصيّة أكثر انفتاحاً وتوافقيّةً من سائر الإسلاميّين الشباب في البلد. وعندما تظاهرت الأحزاب الليبرالية والعمالية بأعدادٍ هائلة بعد أن اغتيل سياسيان يساريّان محترمان في العام 2013، نصح غنوشي بالتوصّل إلى حلّ وسط.

غير أنّ موافقة حزب النهضة اللاحقة على التنازل لصالح حكومة تكنوقراط وتأييدها دستوراً جديداً للبلاد مطلع هذا العام ليسا، كما اعتبر كثيرون هذه التطوّرات، عتقاً من سطوة الإسلاميّين. فالغنوشي وأتباعه ليسوا معتدلين بقدر ما هم صبورين، إذ أرغمت عقودٌ من العلمانية في تونس الإسلاميين على تحديد أفقٍ بعيد، لكنّ اعترافهم بإيمانهم بالسيادة الشعبية يخبّئ إيماناً راسخاً بالحاجة إلى أسلمة المجتمع التونسي إلى اليوم الذي يمسي فيه مستعداً لقبول رؤيتهم. هذا ما يدركه الليبراليون التونسيون وما يؤجّج نار غضبهم. كما يكتب حميد، ولو قام حزب النهضة {بالأمور الصائبة كافةً، لن يكون ذلك كافياً، فالمشكلة لم تكن تقتصر على السياسة وحسب، بل تتعلّق أيضاً بآراء سائدة لا يمكن التوفيق بينها}. من المبكر جداً أن نعلن عن خاتمةٍ سعيدة في تونس.