سعيدة أنت، لا شك، بترشح روايتك «طابق 99» لقائمة الـ{بوكر» القصيرة. ماذا يعني لك هذا الترشح؟

Ad

كسرت به حاجز روايتي السابقة «أنا، هي والأخريات»، خصوصاً أنها ترشحت للقائمة نفسها في عام 2013. عندما تقدمين عملاً يلقى تفاعلاً كبيراً، قد يشكّل الأمر مشكلة في ما ستكتبين لاحقاً. النشر والجوائز يلقيان علينا الضوء ككتّاب ويضعاننا في مرحلة مختلفة عمّا كنا فيه. لا تعود الكتابة أمراً شخصياً فحسب، بل يُضاف إليها القرّاء والآراء، من ثم يبات الحفاظ على لحظة الكتابة الشخصية أصعب. وأعتبر هذه اللحظة ضرورية للانفصال عن العوالم الأخرى والانفراد بالعالم الروائي أثناء بنائه. لهذا كنت حذرة حين كتبت «طابق 99» ألا أقع رهينة أي نجاح سابق وأن أعود إلى متدرّبة في الكتابة، كأنّي أقوم بالتجربة للمرة الأولى ولكن بخبرات أكثر. أظن أنّي أثبت لنفسي أولاً أنّ الكتابة الروائية هي المسار الذي سأستمر به بشكل متجدّد، وأني سأحافظ دائماً على قدرة اقتناص لحظة الكتابة المجرّدة.  

 

هل أنت راضية حول ردود الفعل على نتائح الجائزة؟

ترافق كل جائزة أدبية ردود فعل كثيرة. لا يمكن لجائزة أن ترضي الجميع نظراً إلى اختلاف الذائقة الأدبية وحسابات الأشخاص. ما لا أفهمه هو انتقاد البعض، كتاباً أو دور نشر، للجائزة أحياناً، وتهافتهم من ناحية أخرى لتقديم أعمالهم إليها. هل ستختلف نظرتنا إلى الجائزة إن أرضتنا نتائجها، فيما أغضبت الآخرين؟ هل نلوم هؤلاء إن انتقدوها؟

في زمن المجازر السورية والعراقية والليبية... كيف يمكننا كقراء العودة إلى مجزرة «صبرا وشاتيلا» تحديداً؟

السكوت عن الظلم والقتل وإدراجه كجزء طبيعي من الصراعات السياسية والحروب القائمة في أيّ مرحلة من التاريخ سيولّد من دون شك ظلماً آخر. يلجم الطبيعة البشرية عن الشر غالباً هذا العقد الاجتماعي والقانون الذي يخضع الناس له بحكم حياتهم كمجموعة. لو تمّت مواجهة العنف في بداياته بمبدأ العقاب، لتوانى الناس عن الكثير من الإجرام في أيامنا. فهل تلغي الجروح الراهنة جروح الماضي؟ عندما نعود إلى الحروب السابقة، إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية مثلاً، نجد ابتكاراً حينها في التعذيب والقتل. من ثم، مشاهد اليوم ليست الأولى من نوعها.

حاولت العودة إلى الوراء لأنّ الماضي أولاً ما زال يلسع الحاضر، سواء ذكرى المجزرة أو آثار الحرب الأهلية اللبنانية، ولأن مرحلة القتال انتهت، وثمة فاصل زمني بيننا وبينها يخوّلنا أن نرى ملامحها بوضوح. ولكن في ضوء المجازر وصور القتل الحالية، ثمة صورة ملتبسة لا نستطيع قراءتها بهدوء بعد.

 لماذا العودة إلى الحرب في لبنان؟

هل انتهت الحرب في لبنان؟ انتهى القتال. كيف نقول إن الحرب انتهت بينما لدينا 17,000 مفقود منذ ذلك الحين، مع شبه تكتّم حكومي على مصائرهم؟ كيف تنتهي الحرب ورموزها وأمراء الحرب أصبحوا زعماء؟ هذا لا ينهي حرباً، بل يضعها فقط في إطار رسمي. لدينا أيضاً صراعات جديدة في لبنان والمنطقة، والحاضر ليس أفضل بكثير من الماضي. عندما يجلس اللبنانيون معاً لرؤية وطنية موحّدة ستنتهي الحرب، وهو ما يبدو بعيداً.

هل يمكن وضع روايتك في خانة «أدب الحرب»، وهل ثمة إطار محدد لهذا النوع من الأدب في لبنان؟

شكّلت الحرب تجربة قاسية على الإنسان منذ العصور الغابرة، ما حوّلها إلى موضوع يتناوله الأدب عبر أطر مختلفة. يمكن مثلاً اختيار رواية قصص لجنود في الحرب، أو قصص عاشها أشخاص خلال الحرب. تضع الأخيرة الإنسان على مقربة من الموت وتجعله يختبر العنف والخوف والصراع واللامبالاة أحياناً. من ثم، هي تتأرجع بين الفقد والموت والحياة والخسارة، وكلها مواضيع إنسانية تصلح للكتابة. لا أعتقد أنه يمكن حصر الكتابة عن الحرب في إطار واحد، لكن ثمة أدباء لبنانيون كتبوا عنها من أجيال مختلفة ولكل منهم مقاربة مختلفة.

هل تعني لك الذاكرة كثيراً أم أنها حجة للسرد؟

ثمة فرق بين الماضي والذاكرة. تختلف نظرتنا إلى الماضي عمّا تخزّنه الذاكرة من صور وحتّى عن الأثر الذي يتركه فينا. لست من هواة التاريخ مثلاً، ولكن سبق وقلت إن الماضي مرآتنا لفهم الحاضر. الذاكرة أمر شديد التعقيد ومتعلّق بالوعي وقدرتنا على تحليل الأحداث الماضية وتخطيها. كلّنا نخزّن لحظات حنين وتداهمنا الذاكرة حين نظنّ أنّنا نسينا، لا سيما في الكتابة والسرد ونجدها تتجلى أمامنا كأننا كما تقول الكاتبة أنيس نين: «نكتب لنتذوّق الحياة مرّتين، مرّةً عندما نحيا اللحظة ومرّة أخرى عند استرجاعها».

 في أي سياق اخترت أسماء الأمكنة والأبطال في الرواية: نيويورك الأميركية، جبل لبنان، مجد الفلسطيني، وحبيبته المسيحية، الطابق 99، ومخيم صبرا وشاتيلا؟

الأماكن فرضها سياق الأحداث والمعطيات والسرد. ترددت كثيراً قبل أن أذكر اسم قرية ما في جبل لبنان أو أختلق اسماً وهمياً لقرية ما كي لا أثير أيّ حساسيات معينة، وتركت المكان اللّبناني مبهماً في نهاية الأمر. طابق 99 رمز إلى العلو، إلى كيفية رؤيتنا المشهد أو الذاكرة حين نبتعد وأيضاً الفروقات بين الحياة بين «الهنا» و{الهناك» ومفارقات أخرى. ربما اخترت نيويورك كمدينة للغرباء، مدينة يمكن أحياناً الاستمتاع بأن تكون غريباً فيها، وبأن تشعر بوحشة قاتلة أحياناً أخرى. الأسماء، مجد وهيلدا وغيرهما، تأتي من حيث لا أدري. ربما تحاول شخصيات الرواية أن تحاكي الكاتب من عالمها وتهمس له باسمها. ربما.   

 

تذكرين أيضاً أن «مآسي الحروب، لا تنتهي بعد حدوثها، بل تخالها تبدأ من هناك، من حكايا الأشلاء المطمورة». هل ما زلت «تعيشين» الحرب؟

لم أعش الحرب، أي لا أخزّنها في ذاكرتي. أعرفها من حكايا المقرّبين. أعرف الواقع الراهن وأنّه من تبعات الحرب أو ربما استمرارية لها. بقيت لي أيضاً الحكايا عن الحياة في الحرب وتشوهات تركتها في أشخاص نعرفهم، ولهؤلاء وجود في كل بيتٍ لبناني تقريباً.  

من مكتبه الواقع في الطابق 99 في أحد مباني نيويورك، تبدو هوية «مجد» الفلسطينية ملتبسة، خصوصاً كونه ولِد في الشتات ولم يملك يوماً تجربة حية في موطنه الأصلي... كيف تفسرين الهوية، وما هي «هويتك»؟

الهوية هي الأرض، اللغة، التاريخ، الحضارة، الثقافة... انعكاس علاقة الفرد مع الجماعة. الهوية قد تكون شعوراً بالانتماء، أن نشعر أننا هنا «نحن»، أن جغرافيا ما أو مجموعة ما تمثلنا، أو تشاركنا الهموم والرؤية. بالنسبة إلي، ما زلت أبحث عنها. هويتي هي «إنسانة». عدا عن ذلك، لا أعرف صدقاً. أظنني أميل إلى الفردية، أن أكونني بلا تعريفات.

لاقت الرواية إعجاب كثير من القراء فيما انتقدها البعض سلباً. هل استفدت من هؤلاء؟

سيكون نوعاً من العجرفة أن أجيب بالنفي، لكني فعلياً لم أجد حتى الآن نقداً أبني عليه أو أستفيد منه. تلقيت ملاحظات قبل النشر ممّن اطلع على الرواية واستفدت كثيراً منها. نصحتني صديقة بإزالة فصل كامل كان يفترض أن يشكل النهاية بلحظة رحيل هيلدا، واقتنعت.    

 

هل لديك الجرأة لمشاركة فيسبوكياً مثلاً رابط مقال يتناول روايتك وينتقدها سلباً؟

إن اقتنعت، نعم. اذا كان نقداً بناء لا مانع لدي. ولكن إذا كان نقداً بهدف النقد أو التجريح أو الاستخفاف بجهدي، فلست مضطرة إلى ذلك.

  هل أنصفتك الصحافة اللبنانية؟

ربما، وربما فعلاً من ينصف الكاتب هو القارئ، وليس أي قارئ، القارئ الذي يشعرك أنّه متأثر بالرواية لدرجة إحيائها.

في ظل الصراعات في لبنان وعليه، حتى الروائيون، ومن ثمّ جمهورهم، انقسما إلى أكثر من فريق (إلى فريقين غالباً). ماذا عن «جمهورك»، لا سيما بالنسبة إلى «طابق 99»؟ وكيف تنظرين إلى هذه الظاهرة؟

أنا بعيدة عن الأجواء الثقافية إلى حد ما بسبب انهماكي بعملي وارتباطاتي وحياتي وابنتي ونمط الحياة السريع الذي يفرضه علينا العصر. كذلك لا أريد أن أكون تجسيداً للانقسام اللبناني الذي أرفضه. اتحدّث هنا عن الانقسام السياسي. لي آرائي طبعاً، السياسية وغيرها. لكن السياسة تتغيّر ونبقى نحن محكومين بالعيش معاً. ونحن لسنا نجوماً لديها جماهير. لنا قرّاء، والقارئ لديه درجة من الوعي تبعده عن حدّة الانقسام والاصطفاف.

هل تقرئين أبناء جيلك من الروائيين، ومن؟

نعم طبعاً، مايا الحاج وسليم اللّوزي ومحمد الحجيري وغيرهم في لبنان. اقتنيت رواية مناف زيتون الأخيرة من معرض الكتاب ولم أقرأها بعد. لا تحضرني الأسماء كافة الآن، ولكن أتابع طبعاً.  

 

ماذا تعني لك معارض الكتب وحفلات التوقيع؟

حفلات التوقيع مناسبة للاحتفال بالكتاب. والمعرض وسيلة للتفاعل والترويج للكتب وإحياء الثقافة.

 المرأة والحياة

يرد في الرواية: «وأنا أنتظر ذلك الصوت، شعرت كم أنّ بعض النساء يشبهن الموت، ليس لشيء، إنّما لأنّهن الحياة. إن فارقتهنّ، تفارقك». عينُكِ الروائية كيف تنظر إلى المرأة؟

لا أستطيع أن أختصر المرأة او أختزلها بصورة. «مجد» هنا كان يتحدّث عن حبيبته وعن وضع معين، وفعلاً بعض النساء هنّ الحياة. يمكن لبعض الرجال أن يكونوها أحياناً. النساء مزيج تناقضات، بشخصيات وتركيبات مختلفة. أحاول أن أراهنّ من خلف الأسوار المحاطة بهن، بانكساراتهن وضعفهن وقوتّهن ومعاندتهنّ. قدّمت شخصيات نسائية مختلفة من خلال تجربتي الروائية، المرأة القوية، المكبوتة، المستهترة، المستسلمة، الجريئة، الخ.

وكيف يؤثِّر صوتك الروائي كأنثى على طريقتك في الكتابة؟

لا يمكنني تحديد تأثير صوتي كأنثى على طريقتي في الكتابة. الكتابة درب شائك، تفرض علينا أن نلبس أوجهاً أخرى لنتقنها. أن نصبح رجالاً تارة ونساءً طوراً. أرفض التصنيف الجندري الأدبي. عندما يتخطى الكاتب نفسه، يتمكَّن من أن يصبح كل الذين يكتب عنهم، فيخرج عن المألوف ويصل إلى التحدي الأكبر: أن ينقل تحديات النفس البشرية بأطيافها وألوانها.

 تقولين إن «الرواية بدأت من سؤال حول قدرة الإنسان المجرّد من ظروف العيش الطبيعية والفرص أن يمضي قدماً ويحقّق ما يصبو إليه»... ماذا عن ظروف جنى ولماذا طمحت في الكتابة الروائية؟

أذكر أني أردت أن أكتب منذ سن مبكرة. كنت أكتب الخواطر ورسائل الحب لصديقاتي. كنت في الخامسة عشرة تقريباً، أبدأ بقصص أخفق في أن أنهيها. أردت أن أروي. ولسذاجة طفولية، كنت إن أساء إليّ أحدهم أحوّله إلى شرير في قصّة كشكل من استرجاع حقي. لازمتني الرغبة بالكتابة ومحاولاتها وأنا أتقدّم في العمر، وبدأت قدرتي بتمييز التقنيات الروائية والبناء وأدركت أن الكتابة ليست وسيلة تصفية حساب مع الواقع، وأن ما تمنحه أكثر بكثير. أما ظروفي فربما لم تكن عادية، لذا أدين لها بالكثير.  

كتبتِ: «الحياة عصية على الفهم وكلنا نعيش صراعاتها، تكسرنا في بعض الأحيان وتربكنا كثيراً»، هل تنصفك الحياة؟

الحياة ليست سريراً وردياً نحصل فيه على كل شيء. تخليت عن فكرة السعادة المطلقة لحساب التجارب والرحلة بمحطاتها كافة. قالت لي امرأة حكيمة إنّ من يريد حقوقه كافة من الحياة يتعب لأنّه لن يصل إليها. تأخذ الحياة منا الكثير ولكنها تعطينا في المقابل، وما يختلف هو طريقة نظرتنا إلى الأمور. الحزن والفرح والخسارة والربح والحب والكراهية والألم، كلها تجارب وشذرات من الحياة. منحتني الأخيرة ذلك كله وأكثر. وتعلّمت أن أحمل في قلبي الأمل ولا المرارة. أليس هذا إنصافاً؟