بدأت أمس فعاليات مؤتمر اتحاد المحاكم والمجالس الدستورية العربية، الذي سيبحث سبل تحديث آليات الأنظمة القضائية الدستورية في الدول المشاركة وتطويرها، مقارنة بالنظام القضائي المعمول به في الدول ذات الأنظمة القضائية المتقدمة.
ويشارك في المؤتمر وفد مصري رفيع من قضاة المحكمة الدستورية العليا برئاسة المستشارين أنور العاصي ومحمد الشناوي نائبي رئيس المحكمة.ولعل المعادلة الصعبة في موضوع الرقابة على دستورية القوانين هي التوفيق بين المبدأ الديمقراطي الذي يقرر أن السيادة للأمة، مصدر السلطات جميعاً، وأن البرلمان هو الذي يمثل الأمة صاحبة السيادة، وبين مبدأ الدولة القانونية الذي يوجب خضوع الدولة للقانون، وأن الحاكم يخضع للقانون الذي يسنه إلى أن يعدله، كما يخضع للدستور وهو أسمى من القانون.وكان أبلغ ما عبرت به المحكمة الدستورية عن صيانتها لمبادئ الديمقراطية والحرية ما قررته في قضائها من أن اختصاصها بالرقابة على دستورية القوانين يستهدف صون الدستور وترسيخ مفهوم الديمقراطية التي أرساها سواء ما اتصل بتوكيد السيادة الشعبية، وهي جوهر الديمقراطية، أو بكفالة الحريات والحقوق العامة، وهي هدفها، أو بالمشاركة في ممارسة السلطة، وهي وسيلتها، وذلك على نحو ما جرت به نصوصه ومبادئه التي تمثل دائما القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم (الحكم الصادر بجلسة 9/10/1990 القضية رقم 14 لسنة 12 ق منازعة تنفيذ).ولئن كانت فرنسا من الدول المتقدمة في أنظمتها القضائية إلا أنها حرصت على إبعاد السلطة القضائية عن رقابة دستورية القانون التي يقرها البرلمان، بسبب ظروف تاريخية للمحاكم وهي البرلمانات قبل الثورة التي كانت تقف في وجه كل إصلاح.ومع ذلك تظل الرقابة القضائية على دستورية القوانين في البلاد التي أخذت بها أبغض الحلال عند هذه الدول، وهي تحاول التخلص منها أو الحد من ولايتها، وتشهد على ذلك الرقابة على دستورية القوانين في مصر، منذ إنشاء المحكمة العليا في عام 1969.إنشاء المحكمة العليا في مصرفلم يكن إنشاء هذه المحكمة في عام 1969 بالقرار الجمهوري بقانون رقم 81 لسنة 1969 الذي عهد إليها دون غيرها برقابة دستورية القوانين خالصاً لوجه الدستور والشرعية الدستورية، بل كان إنهاء لأزمة النظام مع القضاء، عقب صدور بيان الجمعية العمومية لقضاة مصر في 28 مارس سنة 1968 الذي انطلق من ناديهم وهم يشاركون في بحث آثار نكسة 5 يونيو 1967، ليؤكد البيان مبدأ الشرعية وسيادة القانون في ظل رقابة السلطة القضائية، وتوطيد سلطتها لتوفير ضمانة من ضمانات الشعب.فلم يكن خافيا على أحد أن الهدف من إنشاء هذه المحكمة في ذات اليوم الذي أقصي فيه 169 قاضياً من قضاة مصر بالقرار بقانون رقم 83 لسنة 1969 هو الرغبة في إبعاد المحاكم عن رقابة دستورية القوانين، وإلزام المحاكم بتفسير المحكمة العليا "الدستورية" لبعض القوانين التي تستدعى طبيعتها وأهميتها توحيد التفسير القضائي لنصوصها بسبب نظرة الريبة والحذر من رجال القضاء.تناسي المحكمة أصل نشأتهاومثلما تناسى مجلس الدولة الفرنسي أصل نشأته، حيث نشأ امتداداً لمجلس الملك Conseil du Roi وامتيازاً للإدارة، فأصبح بحق مفخرة لقضاء المشروعية في العالم أجمع، تناست المحكمة الدستورية العليا في مصر أصل نشأتها، وانتصفت للشرعية الدستورية بالسيل المنهمر من الأحكام التي أصدرتها في تحقيق مبدأ المساواة، وحماية الحرية الشخصية، وصيانة حق الملكية الخاصة، وتوفير الحماية لحق التقاضي، وحق المتهمين في محاكمة عادلة ومنصفة، مهدرة كل القوانين التي تعارض هذه المبادئ أو تصطدم بهذه الحقوق أو بغيرها مما كفله الدستور.كما ألغت المحكمة قانون العزل السياسي الذي أصدره الرئيس الراحل السادات في بداية حكمه، وألغت النص القاضي بحظر قيام أحزاب سياسية تعارض اتفاقية كامب ديفيد، وألغت نصوص القانون الذي جرت انتخابات مجلس الشعب في ظله، وصانت حرية الرأي، وحق التعبير، وحرية الصحافة، وحرية العمل النقابي، وقضت بعدم دستورية القوانين الضريبية التي أخلت بمبدأ المساواة بين المواطنين ولم تراع في فرضها الأسس الدستورية التي تقوم عليها الضرائب، أو لم تحقق العدالة الاجتماعية، وهو ما تعرضت بسببه المحكمة الدستورية لأزمة مع نظام الحكم قبل ثورة 25 يناير انتهت بصدور القرار الجمهوري بالقانون رقم 168 لسنة 1998 ليحد من الأثر الرجعي لأحكامها، بالنسبة إلى القوانين التي تفرض أعباءً مالية على المواطنين.عدوان دستوري على المحكمةوكان العدوان الأكبر عليها، في دستور 2012 الذي وضعته جماعة "الإخوان" في الفترة التي حكمت فيها مصر، في ما نصت عليه المادة 233 من أن: تؤلف أول هيئة للمحكمة الدستورية العليا عند العمل بهذا الدستور، من رئيسها الحالي وأقدم عشرة من أعضائها، بعد أن حدد الدستور عدد أعضاء المحكمة في المادة (176) بأحد عشر عضواً بمن فيهم الرئيس.وبذلك انحرف الدستور عن أهدافه ومراميه ليحقق بهذا التحديد عدد أعضائها، وعزل سبعة مستشارين من المحكمة، وهي ثالث محكمة دستورية على مستوى المحاكم الدستورية في العالم.وكان التيار الإسلامي الذي حكم مصر في هذه الفتره قد أراد بهذا التحديد لعدد أعضاء المحكمة، وفصل ما يزيد على العدد الذي حدده الدستور، التخلص من باقي أعضاء المحكمة بعد ذلك بقانون بخفض سن القضاة من سبعين إلى ستين عاماً، أعد مشروعه وقدمه إلى مجلس النواب الذي كان هذا التيار يحتل أغلبية مقاعده، فعزلوا الأصغر سناً بالمادة 233 من الدستور، لينتظر الأكبر سنا مصيرهم المحترم للعزل بقانون تخفيض سن القضاة.إلا أن نظام الحكم كان مصيره ثورة الشعب عليه في 30 يونيو، تلك الثورة التي ردت للقضاء مكانته، وللشعب ثورته وكرامته.
مقالات
ما قل ودل: على هامش الملتقى العلمي للمحاكم والمجالس الدستورية
23-03-2015