لا ينكر أحد أثر الصحبة والعلاقات الاجتماعية في سلوك الإنسان وطباعه، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، والقرين بالمقارن يقتدي، والصاحب ساحب، كما تقول الأمثال الدارجة، إلا أن الأمر أبعد من ذلك، وأخطر، كما أظهرت الدراسات.

Ad

تشكل حزمة علاقاتنا الاجتماعية، وهي التي نسبح في غمارها طوال الوقت بوعي، ودون وعي غالبا، خريطة تطلعاتنا وتوقعاتنا وسلوكياتنا، فتحدد بذلك مدى بلوغنا إلى مرافئ أهدافنا وتحقيق مرامينا، وترسم في ذات الوقت ملامح عواطفنا ما بين حزن وسعادة وألم وأمل، فتحدد بذلك أيضا مقدار الاطمئنان والاستقرار النفسي الذي نشعر به ونعيشه، يأتي ذلك كله وفقا لشكل هذه العلاقات الاجتماعية وطبيعتها على صعيد القرب والعمق والكثافة بطبيعة الحال.

انتهت دراسة أجراها د. نيكولاس كريستاكيس من جامعة هارفارد، اعتمدت على بيانات أكثر من 12 ألف شخص يقعون في دوائر اجتماعية متداخلة تمت متابعتهم على مدى أكثر من ثلاثين عاما (قاعدة البيانات الشهيرة - فرامينغهام)، إلى أن فرص تحقيق المرء للسعادة تزيد بشكل واضح إذا كان على اتصال مباشر بطرف سعيد. الأمر المهم الذي أظهرته الدراسة هو أن سعادتك مرتبطة بدرجة مؤثرة حتى بسعادة علاقاتك غير المباشرة، حيث تبين أنه حتى صديق صديقك يؤثر في سعادتك.

 وأظهرت الدراسة أنه إن كانت هناك علاقة سعيدة لك ولو من الدرجة الثالثة، أي أنه صديق لصديق صديقك مثلا، فإنك أكثر احتمالا لأن تكون سعيدا بنسبة 6%، ويلخص الباحث كريستاكس هذا الجانب قائلا: "الناس مندمجون في شبكات اجتماعية، وتؤثر سعادة شخص منهم في سعادة الآخرين... وسعادتك ليست جزيرة معزولة التأثير".

الدراسة استكشفت أكثر من ذلك، حيث بحثت كيف تؤثر علاقاتنا الاجتماعية في عاداتنا وسلوكياتنا وصولا إلى تأثيرها في صحتنا. بحثت مسألة التدخين فوجدت أنك أكثر عرضة لأن تصبح مدخنا بنسبة 61% إذا كان لديك تواصل مباشر مع مدخن، وأكثر بنسبة 29% عندما تكون علاقتك بالمدخن من الدرجة الثانية، وعند العلاقة من الدرجة الثالثة تصبح النسبة 11%، أي أنه بمقدار ابتعادك عن دائرة المدخنين تقل فرصة أن تصبح مدخنا بدورك، والعكس صحيح طبعا.

وكذلك بُحث تأثير العلاقات الاجتماعية في مسألة السمنة فتبين أنه إن كان صديقك سمينا فإنك أقرب لأن تصبح سمينا بدورك بنسبة 57%، ولو كان أخوك أو أختك كذلك فإن احتمال أن تصبح سمينا يصل إلى 40%، وأما إن كان شريك حياتك من أصحاب الوزن الثقيل فإن احتمال أن تكون كذلك يبلغ 37%، والسبب في ذلك، كما استنتج العلماء، أنه مع مرور الوقت تحاكي عاداتنا الغذائية وبرامجنا الرياضية والحركية عادات وبرامج علاقاتنا الاجتماعية. إن كان صديقك أو شريك حياتك نشيطا ورياضيا ومراعيا لنظامه الغذائي فإن هذا يضاعف من احتمالية أن تقتدي به وتصبح كذلك إلى مستوى ثلاثة أضعاف وأكثر بحسب بعض الدراسات، والعكس يصدق كما تبين.

الأمر أبعد من ذلك كما ذكرت حيث ظهر أن الأشخاص الذين يمتلكون روابط اجتماعية غنية ومستقرة وسعيدة بوجه عام تتحسن لديهم وظائف القلب والأوعية الدموية، ويقل عندهم مستوى ضغط الدم، وبالعكس فإن الأشخاص الذين لا يمتلكون إلا روابط اجتماعية قليلة، أو يعانون عدم استقرار علاقاتهم الاجتماعية يكون لديهم ضعف مخاطر الموت بأمراض القلب والأوعية الدموية، كما أنهم أكثر عرضة للإصابة بأمراض البرد بمقدار الضعفين عن غيرهم، بل إن جروحهم وإصاباتهم، بما فيها الناتجة عن إجراء العمليات الجراحية، تستغرق وقتا أطول لأن تلتئم، وأجسادهم تحتاج لفترة أطول لأن تتعافى منها.

خلاصة الأمر إذاً هي أننا نكتسب من علاقاتنا الاجتماعية أكثر بكثير مما نكتسبه من شفراتنا الوراثية، أو على الأقل ما لا يقل عنه، وما نكتسبه لا يتوقف عند حدود الطباع والسلوكيات بل يتجاوز ذلك إلى صعيد السعادة والاستقرار النفسي والصحة الفسيولوجية، لهذا فلينتبه كل واحد منا لمن يصادق لأنه يصح الآن أن أقول: صديقك طبيبك!