يملك فلاديمير بوتين راهناً برنامجاً اجتماعياً حافلاً، إذ بدا الرئيس الروسي معزولاً بعض الشيء في التاسع من مايو، عندما امتنع معظم قادة العالم عن حضور الاحتفالات العسكرية الضخمة التي نظمها في موسكو إحياء لذكرى انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن الرئيس كسي جينبينغ كان بين القليلين الذين حضروا، فيما قصدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل موسكو للتحادث بعد يوم واحد من الاحتفالات؛ لذلك لم يتسنَّ لبوتين وقتاً طويلاً ليرتاح من حفله الكبير، وقبل أيام، زاره أيضاً وزير الخارجية الأميركي جون كيري في سوتشي للتحدث بشأن أوكرانيا وسورية.
بعد لقاء سوتشي، أرسلت واشنطن فيكتوريا نولاند، مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأوروبية والأوراسية، إلى موسكو لمواصلة المناقشات الرفيعة المستوى حول أوكرانيا، إذاً قد لا يكون بوتين محبوباً حول العالم، إلا أنه ليس معزولاً بالتأكيد.خلال الأزمة الأوكرانية، دعا الصقور الغربيون إلى عزل بوتين، إلا أنه لم يتعرض مطلقاً لعزلة تامة، فاستبعد أعضاء مجموعة الثماني الغربيون بوتين السنة الماضية، وعقدوا قمة خاصة لمجموعة السبع في بروكسل في شهر يونيو من دون الرئيس الروسي، ورغم ذلك دُعي بوتين بعد ذلك للمشاركة في احتفالات ذكرى إنزال النورماندي، وعقد محادثات مع ميركل والقادة الآخرين بشأن أوكرانيا على هامش هذه الاحتفالات، ومع أن أستراليا فكرت لفترة وجيزة في استبعاده عن قمة مجموعة العشرين السنة الماضية في بريزبن، إلا أن أعضاء هذه المجموعة غير الأوروبيين رفضوا هذه الفكرة. كذلك رحبت البرازيل ببوتين في قمة البريكس السنوية الصيف الماضي، في حين عقد الرئيس الروسي لقاءات ثنائية ودودة مع كل من الرئيس الصيني كسي ورئيس الوزراء الهندي مارندرا مودي، معوضاً بذلك عن علاقاته الباردة مع الغرب.لا يعتبر محللون كثر هذه إشارات إلى تعمّق التعاون بين دول البريكس، فقد حاول مودي التقرب من الولايات المتحدة كما روسيا، كذلك يشير النقاد الغربيون إلى أن بوتين وكسي يشكلان في الظاهر صداقة متينة، ولكن ثمة عيوب أساسية في العلاقة الصينية-الروسية، "فما زالت روسيا تنظر بعين الريبة إلى النوايا الصينية بشأن سيبيريا القليلة السكان"، حسبما أشارت صحيفة Financial Times في افتتاحيتها قبيل الاستعراض العسكري في موسكو. واستخلصت هذه الصحيفة أيضاً أن "الصين وروسيا لا تزالان منافسين استراتيجيين بقدر ما هما شريكين استراتيجيين"، كذلك يتوقع المتحدثون الرسميون في المؤتمرات في بروكسل وواشنطن بانتظام أن الخلاف سينشب بين بكين وموسكو.قد ينم هذا عن تفاؤل مفرط، فكما حذر ألكسندر غابويف في شهر فبراير، قد تقبل روسيا بمخاطر "تحالف ليّن" (رابط سياسي مع بكين لا يبلغ مصاف المعاهدة الأمنية الرسمية)، إن تبين أن الصفقات الاقتصادية الناجمة مع الصين قد "تؤمن الحد الأدنى من الثروة لدعم المواجهات مع الغرب وإبقاء بوتين في الكرملين"، وكما أشرت في تقرير حول المناقشات في بكين السنة الماضية، شدد المحللون الصينيون على أن كسي يأخذ علاقته مع بوتين على محمل الجد؛ لذلك ليس حكيماً أن يتجاهل المسؤولون الغربيون احتمال أن يتعمق التعاون الصيني-الروسي خلال السنوات المقبلة.بالإضافة إلى ذلك، تسعى القوى الغربية إلى التوصل إلى طريقة لإعادة بناء علاقة مستقرة مع بوتين، كما أظهرت زيارتَا ميركل وكيري الأخيرتان إلى روسيا. راهنت ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بمصداقيتهما الدولية على النجاح شخصياً في التوصل إلى صفقة مع بوتين بغية منع الصراع الأوكراني من التفاقم والخروج عن السيطرة في شهر مارس. صحيح أن هذه المراهنة بدت يائسة في تلك المرحلة، حسبما يذكر المسؤولون الأوروبيون، وأن وقف إطلاق النار تعرض لخروقات عدة، إلا أن هذه الصفقة تقدم أساساً لتسوية طويلة الأمد، وتؤكد زيارة كيري سوتشي أن الولايات المتحدة لا تريد أن تُستبعد عن المصالحة مع روسيا.يبدو أن في واشنطن والعواصم الأوروبية بصيص أمل بأن الرئيس الروسي يريد أيضاً علاقات بناءة، صحيح أن بعض التقارير تشير إلى نقل عدد إضافي كبير من الأصول العسكرية إلى شرق أوكرانيا خلال الأشهر الأخيرة، لكن موسكو امتنعت عن تجديد الأعمال العدائية على نطاق واسع، كذلك ساهمت روسيا في التمهيد للجولة الأخيرة من محادثات السلام بشأن سورية، ولم تعلن حتى اليوم أي اعتراضات قاتلة بشأن الصفقة النووية الإيرانية، رغم توقفها عند بعض التفاصيل.لا شك أن التطورات في أوكرانيا والشرق الأوسط على حد سواء تدفعان الغرب إلى إعادة تقييم فوائد العمل مع بوتين، فثمة مخاوف متنامية بشأن استقرار الحكومة الأوكرانية: للولايات المتحدة وحلفائها أسباب عدة لتفادي أي أزمة إضافية في شرق البلد قد تسبب الاضطرابات في كييف، أما في سورية، حيث عانت حكومة بشارة الأسد سلسلة من الهزائم في ساحة القتال، فقد يحين قريباً وقت حصاد الثمار والتوصل إلى تسوية سياسية، مما يتطلب بالتأكيد ضمانات روسية.وسواء أعجبنا ذلك أم لا، قد يكون بوتين قادراً على إعادة تقديم نفسه كقوة استقرار لا كمشاغب في الشأنين الأوكراني والسوري في المستقبل القريب.تريد القوى الأوروبية أيضاً دعم روسيا في معالجة الأزمة الليبية، في حين سيكون لموسكو دور مهم عليها أن تؤديه في إدارة أي صفقة نهائية مع إيران، لكن هذا كله لا يعني أن بوتين يرغب في استرضاء الغرب بدون أي قيد أو شرط، فقد عكّر بوتين فرحة الاحتفالات بالاتفاق الأولي الإيراني في شهر مارس برفعه التجميد عن تسليم صواريخ مضادة للطائرات من نوع S-300 بيعت لطهران عام 2007، والمفارقة أن بوتين كان سابقاً قد حاول التقرب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطوة تهدف بالتأكيد إلى إزعاج واشنطن، بالإضافة إلى ذلك، ألمحت روسيا إلى أنها قد تستخدم حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لعرقلة قرار يتيح للاتحاد الأوروبي اتخاذ خطوات عسكرية ضد مهربي المهاجرين في ليبيا، مع أن الاتحاد الأوروبي يواصل المضي قدماً في خطته هذه.يبدو أن من مصلحة بوتين غالباً، أو ربما من طبيعته، أن يبقي الغرب في حالة حيرة بشأن نواياه، فهو يكسب نفوذاً أكبر بنشر القلق في الخارج، مقارنة بالتوصل إلى صفقات واضحة وسريعة، ورغم كثرة الحديث عن حدود روسيا، يبدو اليوم في موقع يتيح له تأليب الولايات المتحدة، وأوروبا، والصين على بعضها في لعبة سياسية تزداد تعقيداً. صحيح أن المسؤولين الغربيين قد يسخرون من نقاط ضعف روسيا، إلا أنهم يعجزون عن إنكار إعجابهم بمناورات قائدها.* ريتشارد غوان | Richard Gowan
مقالات
هل يستطيع بوتين إعادة تصنيف روسيا؟
22-05-2015