شموع تكاد تنطفئ
من ضمن الكتب الأكثر مبيعاً وقراءة في المكتبات الغربية، تبرز كتب التجارب الحياتية الصعبة والتجارب المَرَضية على وجه الخصوص، بل تظهر كأكثر الكتب تأثيراً وخضوعاً للحوار في البرامج التلفزيونية والحياة العامة. وليس بالضرورة أن يكون مؤلفو هذه النوعية من الإصدارات ممن احترفوا مهنة الكتابة أو ممن لهم شهرة وصيت في الفكر والأدب، إنما هم مجرد أناس عاديين يخوضون غمار الحياة ويشعرون أنهم يمتلكون تجربة غنية تستحق البوح والمشاركة وتمرير الفائدة. هذا اللون من الكتابة الحميمة والوثيقة الصلة بالخصوصية الشخصية، يكاد تختفي في مشهدنا الحياتي للأسف، أو يكاد يظهر على استحياء وتردد، لكوننا مجتمعاً يتأسس على ثقافة التخفي والتكتّم، ويحبذ (الستر)، وإن بمعايير متناقضة وملتبسة! لذلك ندرت لدينا كتب السير الذاتية والتجارب الإنسانية رغم أهميتها القصوى في تبادل المعارف والخبرات الحياتية. وحين تظهر لدينا بعض النماذج اليتيمة هنا وهناك، فإنها تستحق الإشادة بلا شك، وكتاب (شموع تكاد تنطفئ) لكلثوم دشتي واحدٌ من هذه النماذج.
هناك مقولة لأحدهم تصلح أن تكون (مانيفستو) أو مدخلاً لأي ورشة أو دورة لتعلّم الكتابة هي: هناك ثلاثة أشياء تجعلك مؤلفاً ناجحاً، الأول أن يكون لديك ما تقوله، الثاني أن تمتلك المهارة لقوله أو كتابته، الثالث أن تمتلك الشجاعة لتقوله كله بلا نقص أو مواربة. وأعتقد أن مؤلفة "شموع تكاد تنطفئ" استطاعت أن تفي بالشرط الأول والثالث بجدارة، مع الحاجة إلى اكتساب بعض المران في مسألة مهارة الكتابة بلا أخطاء لغوية وتعبيرية، أو الاستعانة على أقل تقدير (بمحرر/ مصحح) قبل تقديم الكتاب للمطبعة. بيد أن جاذبية الكتاب تكمن في ذلك البُعد الإنساني الجميل حين تقرر المؤلفة أن تروي تجربتها مع مرض (الروماتيود) المزمن، وعلى مدى عشرين عاماً من التحمّل والصبر والعجز، عابرة بنا فوق صليب آلامها الجسدية والنفسية، ومسيرتها الجراحية والعلاجية والدوائية، ومراوحاتها بين اليأس والأمل وبين التسليم والرجاء. وقد عززت المؤلفة هذا السرد المؤثّر بلازمة من لوازم السيرة الإنسانية وهي البُعد الأسري والبيئي، لتكتمل أمامنا الصورة بصدقها ووجهها الإنساني الأمثل. ويبقى الهدف الأهم والأسمى والذي تحقق من خلال هذا اللون من الكتابة، وهو بذل المعرفة حول هذا النوع من المرض (الروماتيزمي) المزمن الذي يقود المريض في النهاية إلى تلف مفاصل الجسم جميعاً، وتعسّر الحركة وتورم الأطراف، وينتهي بالمريض إلى العجز التام ومعايشة الآلام المبرّحة. مع الحاجة المستمرة إلى العمليات الجراحية في المفاصل والعظام لترميم ما يمكن ترميمه طوال مسيرة التاريخ المرضي. وإلى جانب بذل المعرفة بالمرض هناك رجاء خفيّ نلمحه في ثنايا الكتاب، هو الرغبة في المشاركة في التجربة مع المتشابهين في المعاناة والبلاء، لعل ذلك يفتح أبواباً مواربة من الفهم والتعاطف والتبادل المعرفي، خصوصاً مع انعدام ما يسمى بالعلاج عن طريق (الجماعات المساندة أو الداعمة) (group thereapy) بيننا للأسف، وتكتّمنا المزمن على الأمراض الجسدية والنفسية واعتبارها وصمة يُستكره الحديث عنها! في الكتاب كذلك جملة من الطروحات الجديرة بالحوار، يأتي على رأسها مسألة الثقافة الصحية وضرورة الاحتفاظ بسجل صحي شخصي لمراحل المرض وتنويعات الأدوية ومسمياتها وجرعاتها، وهو الأمر الذي يهمله الكثير من المرضى تاركين إياه للذاكرة وتخمينات الطبيب وفوضى العلاجات. وهناك مسألة العلاقة بين المريض والطبيب خصوصاً فلسفة التكتّم والصمت وقلة المعلومات التي ينتهجها الأطباء في بلادنا، معتبرين المريض مجرد أداة بلا إرادة أو رأي أو خيار. وهناك هموم أخرى تتعلق بمهنة الطب التي غلبت فيها المهنية المحضة على الأبعاد الإنسانية والأخلاقية. بقي أن تستعيد ذاكرتي في هذا السياق أحد الأفلام الأجنبية، حيث تدور أحداثه حول طبيب أراد أن يعرف كيف يشعر المريض فعلياً أثناء وبعد خضوعه للعمليات الجراحية الكبرى، وألا يكتفي بدور المشاهد، فكان أن أخضع نفسه لمثل هذه العملية من الألف إلى الياء ليفهم ويستوعب معنى معاناة الإنسان وجراحاته وآلامه. تُرى كم لدينا مثل هذا الطبيب الإنسان الذي وضع مسألة (المشاعر) ضمن أولوياته؟ وأخيراً أشعر أن كتاب "شموع تكاد تنطفئ" جاء في صورته النهائية ليكون وسيلة للاستشفاء والتخفف من أحمال الآلام الجسدية والنفسية، فالكتابة كانت ولاتزال علاجاً ودواء. وهي في حالة (كلثوم دشتي) كانت كذلك حقاً.