احتيال موسيقي
لقد أصغيت لـ«سيمفونية هيروشيما» للياباني مامورو ساموراغوشي حين صدرت عام 2003، ولقد طربت لها ووجدت آثار النمساوي ماللر فيها ملموسة، كما أوضح النقاد، فأنا أحب آثار السابقين على أعمال اللاحقين في كل حقول الإبداع، وأعتبرها أثراً صحياً. وهذا الأثر عمّق البعد التراجيدي للعمل، وعلى الأثر تابعت عدداً من أعمال هذا المؤلف الياباني البارع. ومضت السنوات، وطوى الإهمال طي النسيان هذا المؤلف في داخلي، ففيض المؤلفين من اليابان والصين أغرق الحياة الموسيقية الكلاسيكية بغزارة الأسماء، وغزارة النتاج، ولكن أخبار الموسيقي لم تترك هذا الفيض دون إثارة فضائحية، فلقد تبين لي أن مامورو ساموراغوشي (مواليد 1963) موهبة موسيقية عجائبية ككل شيء ياباني، ولكن عجائبيتها محتالة هذه المرة. حكاية تصلح للسينما والمسرح، فالرجل شاع في المحافل الموسيقية بمظهر غرائبي: شعر رأس يغطي الكتفين، نظارة سوداء تكاد تخفي الملامح، صمم يمنحه عزلة ضاربة، عكاز في اليد يوحي بشيخوخة مبكرة، إلى جانب لقب استثنائي يبدو أنه يستحقه: «بيتهوفن اليابان».لنقرأ ما ورد في سيرته الذاتية: في الليلة التي فقد فيها السمع تماماً كان في غمرة حلم «... كنتُ جالساً وحدي على شاطئ البحر»، ثم وقف، وخطا فيه حتى بلغ الماء عنقه. كل ما كان يسمعه هو تكسر الأمواج على الشاطئ
«ولكن شيئاً أمسك بكاحلي وصار يسحبني إلى الأسفل... والصوت يتناءى مع تدفق الماء في أذني، وفجأة لم أعد أستطيع التنفس، وفقدت الوعي. حينها استيقظت». ترك سريره واتجه إلى آلة البيانو، وحين ضرب على المفاتيح بأصابعه لم يسمع صوتاً، فبدأت لحظات ذعره. صار يضرب أذنيه، يضرب رأسه على الجدار، وفي لحظة وجد نفسه غارقاً ببركة من دمه...».هكذا عرض صممه، وهو في ذروة فيضه الموسيقي، على الناس. وحين قدم عمله «سيمفونية هيروشيما» كانت عواطف الناس جاهزة لرفعه إلى مصاف بيتهوفن. وارتفع فعلاً، حتى بيع من العمل أكثر من مئة ألف نسخة، كما عُزف كتعبير وطني مناسب بعد كارثة السونامي التي اجتاحت اليابان عام 2011. وفي استفتاء حول أهم عشرين مؤلفاً موسيقياً يابانياً آنذاك كان هو المؤلف الموسيقي الحي الوحيد بينهم. في حوار مع مجلة التايم يقول حينها: «إذا ما وثقت بحاسة الصوت الداخلية، فأنت تخلق شيئاً ما حقيقياً. إنه يشبه تواصلاً قلبياً. إن فقدان سمعي كان هبة من الله». هذه اللغة النظرية المتسامية مألوفة في نسيج اللغة النقدية، في كل الأزمان، وكانت سيرته الذاتية التي وضع لها عنوان «السيمفونية رقم واحد»، تيمناً بسيمفونية هيروشيما، ذات شعبية شأن أعماله الموسيقية.ولكن هذه الهبة الإلهية التي تواصلت بسلام حتى مطلع 2014، حُجبت عن السماء فجأة، حين طلع نيشاكي ناغاكي على الناس، وهو مؤلف موسيقي، في مؤتمر صحافي، ليعلن أن صمم السيد ساموراغوشي ادعاء لا صحة له، وأن كل موسيقاه التي صدرت عبر السنوات لم تكن له، بل هي من نتاجه هو: نيشاكي ناغاكي:«إنني لم أشعر مطلقاً بأنه كان أصماً، فلقد كنا نواصل الحديث المتبادل في لقاءات العمل». ناغاكي أبلغ الصحافة بأنه استلم عبر 18 سنة قرابة 69 ألف دولار، عن قرابة عشرين عملاً موسيقيا ألفه ووضعه تحت اسم ساموراغوشي. لقد كان المؤلف الحقيقي لأعمال بيتهوفن اليابان، يتقاضى على كل عمل يكلفه به ساموراغوشي مبلغاً مغرياً من المال صار يعتمده في معاشه، ولا يمانع معه من الصمت عن الحقيقة. وكعادة اليابانيين ذهب يعتذر من الجمهور، الذي أسهم في خداعه، بالانحناءات المتواصلة. بعده بأيام ظهر ساموراغوشي هو الآخر معترفاً، وبانحناءات أكثر تواصلاً من ناغاكي.لقد اختفى تدريجياً عن الأنظار، شطب على تلفونه الشخصي، وعلى عنوانه الإلكتروني، باستثناء بضعة أصدقاء معدودين. معتزلاً الناس مع زوجته وقطته. ولكنه ربح عقدين من الزمان غنيين في المال والشهرة.