"يوسف إدريس"، من الكتاب العرب الذين يتحدى إبداعهم الغياب والأفول، استطاعت كتابته الصمود بوجه الزمن وتحدت المحو والنسيان، كتابة تغلبت على الموت والنهايات للإنسان، وأثبتت بالفعل قدرة المبدع على مواجهة الموت بالخلود الدائم الذي يمنحه حضورا إبداعيا حيا في كل الأزمنة والعصور.
في هذا الصيف قررت أن أعيد قراءة كتب سبق لي قراءتها في عمر مبكر كان فيه كل همي منصبا على معرفة وملاحقة الحدوتة التي تجري أحداثها على الورق بدون وعي بقيمتها الفنية والأدبية والجمالية، لذا أفرزت مجموعة من الأعمال الأدبية حتى أعاود قراءتها من جديد، وكان منها 3 كتب ليوسف إدريس الذي هو ملك القصة القصيرة بلا منازع، كان ومازال محتلا عرشه الدائم فيها.أحد الأسباب التي دفعتي إلى قراءته من جديد هو انغراس صور لمشاهد وحالات إنسانية سكنتني منذ قراءتي الأولى لها بدون وعي كامل بأسبابها، ومنها قصة "أرخص الليالي" المفتتح بها مجموعته المسماة بذات الاسم، وبصراحة دهشت من قوة كتابته ومن طاقة حضورها الرهيب، كأنها مس كهربائي يمسك بتلابيب القارئ ولا يتركه حتى بعد إنهائها، تبقى طاقتها الحيوية ملتصقة وملتهمة روح القارئ ووجدانه بكثافة حضورها ونبضها المتجسد الحي، فهي ليست حقيقة مكتوبة بل هي مستحضرة من زمنها ومن مكانها لتنط وتنقذف في وجدان قارئها، فهي كتابة آتية من الجسد وذاهبة الى الجسد، أقصد أن يوسف إدريس قد كتبها ليس بالحبر والقلم بل كتبها بكل طاقة حواسه من سمع وشم ولمس وتذوق وبصر، التي شغلتها كتلة أعصابه وشبكتها الحسية كلها، تبرمجت في داخل شبكة الأعصاب الحسية للشخصية المرسومة حتى توحدت معها وذابت فيها، ولم يعد هناك فاصل ما بينهما، فهذا الطبيب الكاتب لم يعد له أي وجود وهو يكتب عن شخصية هذا الفلاح الفقير الذي من فقره لا يجد مكانا يستطيع أن يسهر فيه بأرخص ما يمكن، وحتى هذا الأرخص لا يملك ثمنا له.يوسف إدريس، استطيع أن أؤكد أنه لم يكتب هذه المجموعة بقلمه بل بأعصاب وحواس أبطال هذه المجموعة التي استولت عليه واحتلت شبكة أعصابه بكاملها حتى تمثلها، وتقمصتها روحه بالكامل في كتابته.لذا جاءت كتابته حية نابضة مكتوبة وصالحة لكل عصر، فهي ليست كتابة على ورق لكنها حياة متدفقة تتحرك بكل أبعادها الثلاثية لتتجسد بكامل كينونتها الإنسانية أمام عيني القارئ الذي يحسها ويستشعرها بكافة شبكة حواسه التي أرسل عليها يوسف إدريس شفرته الإنسانية هذه، ستعبر كل الأزمنة التي سيتواجد فيها إنسان حامل في جسده ذات الشفرة.جاءت لغة الكتابة بإيجاز ودقة توصيف حازمة ملائمة تماما مع الشخصية المرسومة، ولا كلمة خارجة عن السياق أو غير صالحة أو غير مناسبة أو مطابقة للشخصية المكتوبة، تعبيرات ريفية من قلب وروح الفلاح فهي شديدة الخصوصية، حتى وإن اكتملت بعاميتها حين يكون التعبير أفضل وأقوى وأكثر بلاغة من الفصحى، ناسبت أجواء الريف أكثر وأقرب لطبيعة الشخصية، فمثلا في القصة الأولى، كان للغة دور البطل في الحكاية حيث رسمت صورة ناطقة لحياة فلاح فقيرة، جعلت كل كلمة وكل جملة متعة بحد ذاتها، فاللغة استطاعت تصوير الفقر بصدق جارف ودقة تعابير معيشة بشكل رهيب مثل قصة "المرجيحة" وأيضا روعتها وهي تصف حالة أبو سيد الذي فقد رجولته، وكم تعني هذه الحالة للرجل.كل قصص المجموعة هي مشاهد وصور لناس أتعبتهم الحياة وداستهم بدون اكتراث، قصص ناطقة بأوجاعها الإنسانية التقطها قلم كاتب مهنته في الأصل طبيب يعالج الآم الناس بالدواء وبالقلم.وهذه مقتطفات من القصص المكتوبة: 1- "والذي بلبل كيانه، انه ما ان دخل إلى الزقاق حتى ضاعت منه ساقاه الغليظتان المنفوختان، ولم يعد يعرف موضع قدميه الكبيرتين المفلطحتين اللتين تشقق أسفلهما حتى يكاد الشق يبلع المسمار فلا يبين له رأس".2- "وجمده قليلا مشهد امرأته وقد وقفت منكوشة الرأس، والمشط الخشبي في يدها، تدكه بين غزارة شعرها الأكرت، ثم تشده بكل ما تستطيع ليحرث طريقه بين الجذور والسيقان، وقد زمت وجهها السمين الخمري اللامع، وارتسمت دقائق التجاعيد حول أنفها السهل الفاطس، وبان النور من عينيها اللتين ضيقتهما في فروغ بال".
توابل - ثقافات
إبداع يتحدى الأفول
10-11-2014