عادةً ما أقرأ شيئاً عن الرسام قبل أن أدخل معرضه، خصوصاً إذا ما كان المعرض استعادياً، ثم أقرأ بعد المعرض دليله، الذي تسلمته مع تذكرة الدخول، ثم عدداً من العروض النقدية التي تُنشر في الصحافة الثقافية، وبذلك تكتمل متعتي لأنني كائن قراءة بالدرجة الأولى. وهذا يحدث مع الموسيقى، والسينما.
ورغم أنني على معرفة بالرسام بيتر بول روبنز الفلمنكي (1640-1577)، خصوصاً عبر موديلاته الأنثوية العارية، ذات التوهج الوردي الذي يعلن حسية عالية، والتي أرى أصداءها تتردد لدى نساء الرسام الفرنسي رينوار، فإن المعرض الذي شاهدته في "الأكاديمية الملكية" لم يخلف الأثر ذاته. صحيح أن المعرض لا ينصرف إلى لوحات روبنز وحده، بل يُشرك معه الفنانين المتأثرين به عبر القرون الأربعة التالية، من أمثال فان دايك، ديلاكروا وسيزان، إلا أن لوحات روبنز بدت لي حيادية في العاطفة، وبارعة في تقنيات اللوحة. الحيرة إزاء هذا التعارض لخصها ناقد جريدة الغارديان بقوله: "لماذا لا يوجد أي معنى للتفرد في عمله، ولا للشخصيات التي تبدو أكثر أو أقل ذكاءً، عميقة أو لافتة للنظر (اما له أو لنا) مقارنة بالأشخاص الآخرين؟ لماذا كل هذه الشهوانية التي تولد القليل، القليل من الإثارة الجنسية أو العاطفية؟ لماذا هذا الفقر في التعبير العميق عن الكرب أو العالم الداخلي أو الروحي، ولا ظل لزوال الكائن وانعدام اليقين، حتى عندما تكون هذه المضامين الموضوع الأساسي في اللوحة؟ اللوحات وصفت على أنها غامرة التأثير، وأحدنا ينتظر أن يكون مغموراً". هنا، يلقي فن روبنز الضوء على إشكالية مدى تأثير التقنية في الفن على المشاعر، فقد تَشغلنا التقنيةُ والبراعةُ بالإدهاش والاستعجاب، ولا تتجاوز ذلك إلى استثارة المشاعر. هذا يحدث بصورة واضحة مع الشعر. كثير من القصائد تثير لديك الدهشة، بفعل اللغة البليغة، والتفنن في الاستعارة، وبراعة الصياغة، ولكنها لا تمس المشاعر، ولا تثير الرؤى، ولا تُنضج الوعي. رغم أن روبنز لم يكن كذلك إلى هذا الحد، فلوحته تشغل ذائقتنا، وتطلعنا الفني. كان يلقب بـ"هوميروس فن الرسم"، لأنه كان راوية حكايات، خصوصاً في لوحاته الشهيرة "صيادو النمور"، و"ديانا تعود من الصيد"، و"حديقة الحب"، وعشرات من اللوحات الأخرى التي لم تشارك في المعرض. وأروع ما يميزه هو ضربات فرشاته المتوهجة. كان، في حضوره الرسمي داخل النظام السياسي، يُرى كأحد دعاة نظام الاستبداد والحركة المضادة للإصلاح، وكأحد المنتصرين للعودة إلى خصائص فن الباروك، الميال إلى الوضوح، إلى الحركة والدراما في اللوحة. ولكن هذه لم تكن خصيصته الوحيدة، فهو متحرر من الطابع الرسمي لفنون البورتريت العائلي، المنظر الطبيعي، رقص الفلاحين، واللمسة الشهوانية. هذه خصائص روبنز الشعرية التي تُعتبر طليعة تيارات الروكوكو، والرومانتيكية، والانطباعية القادمة بعده. تنوع فن روبنز جعل تأثيره على الفنانين المعاصرين له، والتالين بعده، بالتنويع ذاته: فالرسامون الفرنسيون جُذبوا بشكل أساس إلى الشهوانية والشعر في لوحته، بينما انسحر الفنانون الألمان بـحيوية اللوحة وميلها إلى عاطفة الأسى. الفنانون الإسبان أُعجبوا بدراما أعماله الدينية، في حين وجد الإنكليز ضالتهم في البورتريت والمناظر الريفية. على أن الجميع فُتنوا بألوانه، وبالتأليف في لوحته، وبالتقنيات. في هذا المعرض وُزّع إرث روبنز الفني على ستة موضوعات: الشعر، الأناقة، القوة، الحنو، العنف والشهوة. وفي كل موضوع نتابع تأثير روبنز على الفنانين الذين جاءوا بعده. كيف اجتمعت خصائص استثنائية كالتي لدى روبنز: فنان بطاقة مذهلة، يحيط باستوديو بالغ السعة، يتحدث بلغات ست، دبلوماسي صاعد، ويعتبر أشهر فنان حقق نجاحاً وغنى في القرن السابع عشر، حيث تتألق رسائله التي كتبها بحيوية وبصيرة، وتخطيطاته بالقوة، وحبه للحياة تمثل بزواجه السعيد مرتين وإنجابه أبناءً عدة، حتى ان آخرهم ولد بعد وفاته بثمانية أشهر؟
توابل - ثقافات
هوميروس الرسم
19-03-2015