بدأ التعافي في الولايات المتحدة بالظهور في صورة شبه لائقة ومُرضية، وفي غضون ذلك تواجه اقتصادات أوروبا خطر التعرض لثالث ركود في سبع سنوات، وثمة درس يمكن أن نستقيه من ذلك التباين، وهو أن السياسة الاقتصادية الجيدة تعني عدم الطلب من البنك المركزي القيام بدور البطل.

Ad

ومن المبكر جداً أن نعرف كيف ستنتهي قصة الركود الكبير، وعندما تتم كتابة التاريخ تسود فكرة واحدة فقط، كانت تتمحور حول حكام البنوك المركزية، لا رجال السياسة الذين تم انتخابهم، والذين كان يتعين عليهم التعامل مع تلك الأزمة، وهو هدف لم يكونوا مجهزين بصورة كافية لمعالجته (ولا يزال هذا حالهم حتى الآن)، كما أن بعضهم ارتقى إلى مستوى التحدي، وعجز البعض الآخر عن ذلك.

وقد تورطت كل البنوك المركزية الرئيسية في الأسباب التي أفضت إلى الأزمة على الرغم من أن اللوم لا يقع عليها وحدها، وفي هذا السياق تصدر وزراء المال والوكالات التنظيمية المشهد، وفي وقت لاحق عندما بدأت الأمور تضر بالسيطرة على الوضع، ومن ثم في رسم صورة التعافي لم تعد البنوك المركزية مجرد شركاء صغار، وكانت الحوافز المالية مروعة جداً أو قصيرة للغاية أو كلا الأمرين، وعندما بدأ السياسيون في التصرف تم دفع البنوك المركزية وحدها إلى الواجهة.

نظرة موسعة

الجهات التي سارعت إلى اتخاذ نظرة موسعة إزاء سلطاتها ومسؤولياتها (مجلس الاحتياط الفدرالي الأميركي وبنك إنكلترا) حصلت على نتائج أفضل من تلك التي أجلت العمل لفترة طويلة جداً (بنك اليابان) أو التي رفضت تسريع خطواتها حتى الآن (البنك المركزي الأوروبي)، وكان أن وسعت البنوك المركزية الفعالة حدود تفويضها، ولم يكن على الحكومات جعل تلك الخطوة ضرورية على الإطلاق.

لماذا كانت تلك الخطوة لازمة ومطلوبة؟ لأن الانهيار كان حاداً بصورة استثنائية كما لا يمكن خفض معدلات الفائدة إلى ما دون الصفر، وكان ما يدعى الحد الأدنى من الصفر يعني أن البنوك المركزية أدركت بسرعة أنها لم تعد قادرة على استخدام السياسة الوحيدة التي تخضع لسيطرتها – معدلات الفائدة القصيرة الأجل – من أجل إمداد وتموين التحفيز اللازم للاقتصاد.

أقل من الصفر

لدى البنوك المركزية الأسباب التي تدفعها إلى التردد إزاء التيسير الكمي، وكان مستوى شراء الأصول من قبل مجلس الاحتياط الفدرالي وبنك إنكلترا وبنك اليابان غير مسبوق، وعملية التراجع عن هذا التدخل لن تكون سهلة، كما أن العواقب غير المقصودة من وراء حدوث إغراق من الأموال الرخيصة لا تزال كبيرة، ولكن الدليل يظهر أن التيسير الكمي نجح من خلال دعم أسعار الأصول وتعزيز الثقة، وصحيح أن تلك الخطوة لم تحدث التعافي الكبير ولكن من دونها ما كان للتعافي أن يحدث على الإطلاق، وإذا كان لديك ثمة شك في هذا فعليك مقارنة وضع الولايات المتحدة مع منطقة اليورو.

والأسئلة المتعلقة بالتيسير الكمي ليست مقتصرة على الأخطار المالية والاقتصادية، ولدى البنوك المركزية العصرية درجة من الاستقلال التشغيلي، ولكن الخط الفاصل بين السياستين النقدية والمالية مشوش، والتيسير الكمي الواسع النطاق يضاعف من غموضه، وعندما يقوم بنك مركزي بتمويل عجز حكومي تصبح تلك عملية نقدية، كما أن التيسير الكمي بالطريقة التي نفذ بها اتخذ صورة شراء ديون سوق ثانوية.

ولنفترض بدلاً من ذلك أن التيسير الكمي كان مرتبطاً بزيادة في الاقتراض العام، أو أن البنك المركزي، ببساطة، قرر إرسال شيك إلى كل دافع ضرائب، عندئذ ستكون العملية أكثر فاعلية، ولكنها ستكون ذات سمة مالية مؤكدة، وسيقول النقاد إن العقد الذي تعمل البنوك المركزية المستقلة بموجبه قد انتهك.

ويسهم هذا في تسهيل فهم موقف البنك المركزي لأوروبي، ومنطقة اليورو في حاجة ملحة إلى تيسير كمي، ولكن بخلاف البنوك المركزية الأخرى يحظر القانون على بنوك أوروبا المركزية تمويل الحكومة، وينبغي على القادة السياسيين في القارة تغيير ذلك القانون، لتظل الحقيقة جلية في أن التيسير الكمي يتطلب المزيد من الشجاعة من جانب رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي بقدر يفوق ما كان الحال عليه بالنسبة إلى بن برنانكه في مجلس الاحتياط الفدرالي الأميركي أو ميرفن كنغ في بنك انكلترا.

مأزق التيسير الكمي في أوروبا

إذا ظل التيسير الكمي جزءاً من أدوات حكام البنوك المركزية فإن التفكير في استقلال البنك المركزي قد يحتاج إلى إعادة نظر، وإذا سارت عملية فك أو إنهاء التيسير الكمي بصورة سيئة فإنه يمكن التعويل على تلك النتيجة، ولكن المعضلة واضحة في أن وضع البنوك المركزية تحت رقابة سياسية أشد، بحيث تنخرط بصورة شرعية أكثر في عمليات شبه مالية، سيشل تلك البنوك على الأرجح، ولتوضيح الصورة تخيل أن لجنة من الكونغرس قامت بتوجيه سياسة مجلس الاحتياط الفدرالي الأميركي.

ومن شأن هذا أن يضفي المزيد من الأهمية على مسألة تفادي وضع مثل تلك الأعباء على كاهل السياسة المالية في المقام الأول، وخلال فترات الطفرة والانتعاش يتعين على الحكومات الحرص بقدر أكبر على مراقبة وتصحيح التجاوزات المالية من خلال التنظيم الواسع إضافة إلى السبل الأخرى المعروفة، ولكن هذا لن يمنع حدوث انهيارات، وعند وقوعها يتعين أن يكون لدى الحكومات السلطة المالية من أجل الرد عن طريق خفض الضرائب وزيادة الإنفاق ضمن خطوات يتعين أن تستمر لأطول فترة ممكنة، وحسب ما تقتضيه الضرورة.

ثم إن تشديد القيود المالية عندما تكون الأوضاع الاقتصادية جيدة يعني أن الحوافز المالية الأكثر جرأة ستكون ممكنة عندما لا يكون حالها على ذلك النحو، ويتطلب هذا كله المزيد من الأساليب والمقاربات التي تتطلع إلى الأمام.

هدف كبير؟ بالتأكيد هو كذلك، وعلى الرغم من أن المرء يأمل أن تكون الأوضاع مختلفة في المرة المقبلة، فإن هناك القليل من المؤشرات على أننا تعلمنا هذه الدروس، ومن المحزن بالنسبة إلى الكل أن حكام البنوك المركزية الذين يتحلون بالمواقف البطولية سيظلون موضع طلب وحاجة على الأرجح في المستقبل.