خطاب «الإفك»!
ليس مستغرباً أن يصل حسن نصرالله إلى الاشتباك مع "الشيعة" في لبنان والعراق وفي غيرهما من الدول العربية، فهو، منذ أن جرى "تنصيبه" زعيماً وقائداً أوحد لـ"حزب الله"، اتبع منهجاً مدعوماً بالسلاح وبالصوت المرتفع، لإذابة كل مكونات هذه الطائفة من تنظيمات وقيادات عائلية وحزبية وسياسية، وفي مقدمة هذه المكونات حركة "أمل" التي انتهت زعامتها إلى رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، بعد تغييب مؤسسها "الإمام" موسى الصدر، الذي بدأ بإطلاق ظاهرة: "المحرومين" في لبنان، وانتهى إلى هذا التشكيل السياسي المسلح أي حركة المقاومة اللبنانية. كان خطاب نصر الله الأخير، الذي سربته، أو في حقيقة الأمر سربت المقاطع الخطيرة منه صحيفتا "الأخبار" و"السفير" اللبنانيتان المقربتان من "حزب الله"، خطابَ ردحٍ وشتائم واتهامات شملت حتى شيعة العراق الذين اتهمهم "المقاتل في جيش الولي الفقيه" بأنهم قصَّروا في إسناد نظام بشار الأسد والدفاع عنه، كما شملت أيضاً شيعة لبنان الذين وصفهم بـ"شيعة السفارة الأميركية".
والواضح من خطاب "الإفك" هذا، أنَّ منْ يسميه أتباعه بـ"سيد المقاومة" قد طفح كيله فعلاً، وبات يتحدث ويتصرف تحت ضغط شعوره بانهيار كل مخططاته وفشل كل تصوراته، فنظام بشار الأسد بات يتصدع أمام عينيه، والمد الإيراني في هذه المنطقة أُصيب بنكسة كبيرة في اليمن، إضافة إلى مواجهته لصعوبات فعلية وحقيقية في العراق، فضلاً عن أن عمليات التجنيد لحزبه، بعد سلسلة الخسائر المتتالية التي مُني بها في سورية و"القلمون"، قد تراجعت إلى حدّ أنه بات يستدرج حتى الأطفال لهذه المهمة، وأنه أكد، في هذا الخطاب، أنه سيعلن التعبئة العامة. كل عربدات نصرالله السابقة قد تراجعت، وكل ادعاءاته بأنَّ نظام الأسد منتصر لا محالة قد سقطت سقوطاً ذريعاً، ولذلك فإنه لم يجد "ما يكبُّ شره عليه" إلا شيعة لبنان، وفي مقدمتهم، بالطبع، حركة "أمل" وأمينها العام نبيه بري، فهؤلاء، لأنهم تخلوا عنه وباتوا غير مقتنعين لا بحربه ولا بتحالفاته، أصبحوا "شيعة السفارة الأميركية"، والواضح مما نشر من كلامه أنه غير مستبعد أن يبادر قريباً إلى افتعال صدام مع حركة المقاومة اللبنانية كالصدام القديم الذي كان افتعله معها، وكان بمثابة حرب شيعية - شيعية! كان نصرالله قد ذهب بمقاتلي حزبه إلى سورية، وهو على قناعة تامة بأنه سينتزع الانتصار للأسد ولنظامه على المعارضة السورية خلال أيام قليلة، وفي حقيقة الأمر، قد أصيب نصرالله في لحظة من اللحظات بغرور طافح جعله لا يتردد في أن يقول إنه لو لم يتدخل بقواته في الأزمة السورية في اللحظة المناسبة لكان هذا النظام، أي نظام الأسد، قد انهار خلال ثلاث ساعات، وربما يكون في هذا الكثير من الصحة، ولكن على اعتبار أن التدخل الفعلي هو التدخل الإيراني والروسي. الآن، وبعد أربع سنوات من استنزاف شيعة لبنان بحرب يُفترض أنها ليست حربهم، وبعدما اتضح أن نظام الأسد بات على وشك الانهيار النهائي، فإنَّ ما قاله نصرالله في خطاب "الإفك" هذا يدل على أنَّ معاركه المقبلة وربما بالسلاح لن تكون في "القلمون"، ولا في منطقة مقام السيدة زينب في ضواحي دمشق، ولا في بعض قرى حلب وحمص وحماة، بل ستكون في ضاحية بيروت الجنوبية نفسها، وفي صور والنبطية، وفي الجنوب اللبناني والبقاع، فأبناء الطائفة الشيعية ما عادوا يتحملون الاستمرار بأن يكونوا وقوداً لنزوات "سيِّد المقاومة"، فقد طفح الكيل، وثبت أن كل هذه الحروب ليست حروب أبناء هذه الطائفة الكريمة، لا في بلاد الأرز، ولا في بلاد الرافدين، ولا في أيِّ مكان من الوطن العربي والعالم.