يواجه الرئيس الأميركي باراك أوباما نوعاً من المأساة، فهو يريد أن يرسم مساراً جديداً (الاستدارة نحو الهادئ، وإنهاء عقد طويل من الحرب، وبناء الأمة في الوطن)، إلا أن بعض بقاع العالم الأكثر خللاً ودماراً لا تنفك تشده إليها، وفي أقسى المفارقات، نرى اليوم الرياح تدفعه مجدداً إلى أرض لا يرغب مطلقاً في أن يطأها، منطقة الحرب التي أمضى الجزء الأكبر من ولايته الأولى يحاول مغادرتها: العراق.
شدد أوباما في خطابه المتلفز: "لن ننجر إلى حرب أخرى على الأرض في العراق"، بدلاً من ذلك، ستكون هذه حرباً يقاتل فيها آخرون، وخصوصاً الجنود العراقيين، على الأرض، في حين يضع المستشارون الأميركيون خطط الحرب ويمطر الطيارون الأميركيون العدو بالصواريخ والقنابل، ورغم ذلك، كان من الطبيعي أن نشعر ببعض الخوف حين واصل الرئيس إلقاء خطابه، لا عجب في أن يكون أوباما نفسه قد أطلق تنهيدة فيما كان يكتبه. رغم ذلك، تبدو السياسة التي طرحها (استراتيجيته "لتحجيم ومن ثم تدمير" التنظيم الإرهابي الذي يعرف بداعش) منطقية، وتملك فرص نجاح بقدر أي سياسة أخرى قد تُبتكر، فثمة عنصران كبيران جديدان في هذه السياسة: أولاً، لن تبقى الضربات الجوية محصورة في المناطق التي يشكل فيها "داعش" خطراً على الموظفين الأميركيين، وبدلاً من ذلك سيُسمح للطائرات الأميركية بضرب أهداف لـ"داعش" في أي منطقة من العراق، كذلك ستُنسق هذه الضربات مع هجمات على الأرض ينفذها الجنود العراقيون، أو ميليشيات، أو قوات البيشمركة الكردية.ثانياً، لن تطيح هذه الضربات الجوية بمجاهدي "داعش" في العراق فحسب، بل عبر الحدود في سورية أيضاً، وشدد مسؤول بارز على هذا الجزء من السياسة، موضحاً أنه ليس مبهماً بقدر ما يوحي خطاب الرئيس، يدرك أوباما جيداً أن الضربات الجوية وحدها لن تؤدي إلى النصر؛ لذلك يجب أن تتزامن مع هجمات على الأرض، وفي الوقت الراهن، ما من قوات على الأرض في سورية تستطيع أن تتصدى لـ"داعش".لذلك ستبقى الضربات الجوية الأميركية في سورية، في البداية على الأقل، محصورة بالمناطق المحاذية للحدود مع العراق، وذلك بغية منع مجاهدي "داعش" من الانتقال ذهاباً وإياباً بين البلدين، ومن البحث عن ملاجئ آمنة، تماماً كما قامت الطائرات بدون طيار بإطلاق النار في شمال غرب باكستان بهدف منع عناصر طالبان الذين كانوا يقاتلون في أفغانستان من العثور على ملجأ آمن.لكن هذه الضربات الجوية ستتوسع في النهاية في مختلف المناطق السورية، فيقوم جزء آخر من استراتيجية أوباما على تدريب وتجهيز الجيش السوري الحر، تلك الميليشيات المعتدلة الواقعة اليوم بين مطرقة "داعش" وسندان الرئيس السوري بشار الأسد، فبعد تسليحه وتدريبه، سيعود الجيش السوري الحر إلى سورية، وسيستعيد بمساعدة الضربات الجوية الأميركية مناطقه الخاصة من "داعش".بالإضافة إلى ذلك، تدعو خطة أوباما إلى تشكيل ائتلاف واسع من البلدان الأوروبية، والعربية، والإسلامية التي ستنضم إلى القتال، بما أن "داعش" تنظيم سني متطرف، فمن الأهمية بمكان أن تشارك الأمم السنية في هذه الحملة للتأكيد أن هذه ليست حرباً أميركية أو حرباً طائفية بين السنّة والشيعة.في خطابه، أوضح أوباما، الذي يتفادى عادةً المغالاة، أن مجاهدي "داعش" لا يشكلون راهناً خطراً كبيراً بقدر تنظيم القاعدة قبل 13 سنة قبيل تنفيذه اعتداءات مركز التجارة العالمي، لكنهم منطلقون في حملة قتل، مكدسين الثروات وترسانات السلاح بقيادة رجال يتمتعون بخبرات واسعة (كثيرون منهم من جنرالات صدام حسين السابقين). كذلك يستغلون المشاعر المناهضة للشيعة (والغرب) بين السنّة المتطرفين، وإذا سُمح لهم بالاستيلاء على العراق وسورية فمن الطبيعي أن نسأل عما إذا كانوا سيستهدفون تالياً المملكة العربية السعودية أو الأردن. علاوة على ذلك، يعمل "داعش" على تجنيد مجاهدين أوروبيين يحملون جوازات سفر تسمح لهم بالسفر عبر القارة وإلى الولايات المتحدة، ومن المؤكد أنهم يشكلون خطراً كبيراً، ونتيجة لذلك لا يمكن أن تكون هذه (ويجب ألا تكون) حرباً أميركية في المقام الأول، لكن الوقائع تُظهر أن الولايات المتحدة هي البلد الوحيد الذي يمكنه تنسيق الائتلاف الضروري لتحقيق النصر (تقديم المعلومات الاستخباراتية، اتخاذ الخطوات اللوجستية الضرورية، تنفيذ الضربات الجوية الدقيقة).إذاً، هذه قضية عادلة، وتبدو خطة أوباما منطقية، حتى في أدق تفاصيلها، فأين يمكن أن نخطئ؟ يعرف مَن درسوا جيداً هذه المنطقة أن الجواب: في كل المسائل.أوضح أوباما جلياً أن هذه المعركة تتطلب مشاركة ناشطة من السعوديين، والأتراك، والأوروبيين، لكن الأدوار والمهام لم تُحدَّد بعد، ولم تُرسم الالتزامات بشكل نهائي، ومن الممكن أن تنجح هذه الخطة في العراق لأن الحكومة الجديدة، التي شكلها حيدر العبادي، تبدو شاملة وتضم السنّة والشيعة راهناً، ولكن من الممكن أن تنهار مع قصف مسجد واحد أو سوق واحدة، فما العمل عندئذٍ؟ هل يبدو الأميركيون وكأنهم ينفذون العمليات نيابة عن نظام شيعي؟ وهل تتراجع أمم سنية أخرى مخافة أن يرتبط اسمها بعمل مماثل؟أما على الصعيد السوري، فلسنا متأكدين مما ستؤول إليه هذه الخطة، فإذا لم ينجح الجيش السوري الحر في تنظيم شؤونه رغم كل هذه الجهود، فهل يتراجع أوباما عن توجيه ضربات في ذلك البلد ويعود إلى التركيز على العراق أو يميل إلى التصعيد، محاولاً تعزيز الضربات الجوية؟ يُعتبر أوباما سريع التأثر "بالخوف من المهام"، وقد ذكر أن هذه الحرب ستستمر فترة من الزمن، كذلك نقلت بعض التقارير أخيراً عن مستشاريه قولهم إنها لن تنتهي قبل ثلاث سنوات على الأقل، فهل يقبل الرئيس التالي بمواصلة القتال؟ وفي مقارنة تاريخية، هل يكون الرئيس التالي لأوباما كما كان ليندون ب. جونسون لجون كينيدي؟ فقد اكتفى جون كينيدي بإرسال مستشارين إلى فيتنام، رافضاً نشر قوات مقاتلة.في هذه الأثناء، يحاول أوباما التصرف بأحكم ما تسمح له الفوضى المستشرية في الشرق الأوسط، وربما ينجح في مسعاه، لكن كل المآسي ترتبط عادةً بقضايا نبيلة ونوايا حسنة، فلن تُعتبر مآسي لولا ذلك، لأنها تكون عندئذٍ مجرد خدع، إلا أن هذه المعركة ليست خدعة، بل ستتطلب مجهوداً سياسياً جباراً ودبلوماسية دقيقة والكثير من الحظ لتفادي الكارثة، لكنها تستحق بالتأكيد عناء المحاولة.* فريد كابلان | Fred Kaplan
مقالات
أوباما في حالة حرب
14-09-2014