رحلا وكأنهما كانا على موعد!
رحلا معاً، فقبل أن تجف تربة الشيخ هاني فحص لحق به المفكر الكبير منح الصلح، كأن قلْبَيْهما لم يتحملا ضغوط هذه المرحلة، التي تُعد أسوأ مرحلة تمر بها الأمة العربية منذ فجر التاريخ حتى الآن، وكأنه هروب إلى الأبدية من غيلان الشعوبية التي باتت تبتلع هذه الأمة، وتزحف على ما تبقّى من وطن كان اسمه الوطن العربي، وكأنه رحيل نحو الآخرة من هذا التمزق الطائفي الذي أبعد الأخ عن أخيه، وجعل العرب يصنِّف بعضهم بعضاً وفقاً للانتماءات المذهبية والطائفية، لا وفقاً للانتماء القومي الذي هو قبل كل شيء انتماء حضاري، وليس انتماءً عرقياً كالانتماء الفاشي والانتماء النازي.ما يجمع بين منح الصلح وهاني فحص هو الوطنية اللبنانية الصادقة البعيدة عن التعصب الديني والطائفي، وهو العروبة الحضارية الصحيحة التي ترفض العصبية العرقية وترفض الانحياز "القطيعي" الأعمى، كما جمعهما أيضاً التحيز إلى فلسطين والقضية الفلسطينية، ورفض الاستبداد ورفض القمع البدائي الذي مارسته أنظمة انقلابية على شعوبها باسم: "الوحدة والحرية والاشتراكية" وباسم: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"... وأي معركة؟!
بقي منح الصلح ابن العائلة البيروتية- القومية، التي قدّمت للبنان وللعرب عدداً من رؤساء الحكومات من بينهم الشهيد رياض الصلح، وتقي الدين الصلح، ورشيد الصلح، وسامي الصلح، يشكّل ضميراً عروبياً حياً في لبنان، وبقي يراهن على حتمية نهوض هذه الأمة من كبوتها، ومن كبواتها، حتى في أسوأ الظروف وأصعب المراحل، كما بقي قلماً وفكراً وثقافة واسعة وعميقة وطيبة قلب ونظافة يد ونقاء سريرة، مناضلاً من أجل العروبة الأعلى والأوسع من الحزبية القومية الضيقة، وبقي فدائياً فلسطينياً، على أساس أنه لا فلسطين بدون العروبة ولا عروبة بدون فلسطين، وأنَّ قضية فلسطين ليست حكراً على تنظيم أو منظمة، وأن اعتبار منظمة التحرير ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني لا يعني إعطاء العرب الآخرين لأنفسهم إجازة من تحمل عبء هذه القضية، التي هي قضية قومية وستبقى قضية قومية حتى بعد التحرير الكامل المنشود. لم يلجأ أي عربيٍّ إلى لبنان... إلى بيروت هارباً بانتمائه وبقناعاته، من ميشيل عفلق إلى جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي والعديد من رموز المغرب العربي، ومن الذين فرّوا بأرواحهم وانتماءاتهم من القمع البدائي، الذي ساد هذه المنطقة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي باسم العروبة والوحدة والحرية، إلا وجد منح الصلح في انتظاره، وهذا ينطبق على العديد من رموز بدايات إطلاق الثورة الفلسطينية، وعلى بعض رموز حركات التحرر العربي من الثورة الجزائرية إلى الثورة اليمنية الشمالية والجنوبية، إلى كل قادة الأحزاب العربية والأممية والوطنية المعارضة سواء في مشرق الوطن العربي أو في مغربه.إن هذا غيض من فيض عن منح الصلح، الذي بقي قلبه ينبض بحب العروبة ويهتف لها حتى اللحظة الأخيرة، أما بالنسبة إلى الشيخ هاني فحص، الذي ربطته بهذا العروبي الكبير علاقات نظيفة وشريفة وصادقة وعظيمة خلال عقود "المد القومي"، وخلال ذروة مرحلة الثورة الفلسطينية، وخلال مرحلة ما كان ما يسمى: "جمهورية الفاكهاني"، فإنه كان يرفض التشيع الانعزالي والحزبي، وكان يقدم لبنانيته وعروبته على الارتباط بأيِّ مرجعية سواءً كانت في "قم" أمْ في النجف الأشرف... لقد كان "أبو مصطفى" من أول من حمل البندقية الفلسطينية من أهل الجنوب اللبناني... أهل جبل عامل الأشم، الفقراء الذين شربوا من قسوة الظلم والتهميش والإقصاء قروناً طويلة، والذين لم يصبحوا مختطفين من حسن نصر الله وحزبه، ومن الشعوبية الإيرانية، ومن الذين نظامهم الدمشقي نظام طائفي لا نظام الطائفة... إلا في هذا الزمن الرديء.ذهب هاني فحص، وكنت رفيقاً له في تلك الرحلة التي قادها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، رحمه الله، وإلى جانبه الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس (أبو مازن) أطال الله عمره... ركضاً إلى طهران بعد انتصار الثورة الخمينية في عام 1979، وكان يفكر في البقاء هناك طالباً ومدرساً في حوزة "قم" كل حياته... لكنه ما لبث أن عاد ركضاً كما ذهب... وقال لي، عندما سألته عن السبب، إنه وجد أنَّ ولاء المعممين الأوَّل في بلد الثورة الإسلامية لإيران لا لـ"التشيع" ولا لـ"المنطلقات الشيعية"... "ولذلك فقد عدت لأنني شعرت أن ولائي الأول للبنان، وللقضية الفلسطينية وللعروبة"... وحقيقة فإنني وقد عرفت (أبو مصطفى) مبكراً، كما عرفت أستاذي منح الصلح، فإنه من حقه عليَّ أن أقول إنني لم أعرف في حياتي إنساناً أكثر منه تواضعاً وصدقاً وعمقاً ثقافياً والتزاماً وطنياً وقومياً... رحمه الله، ورحم معلم الأجيال منح الصلح الذي فضَّل الاقتران بالأمة العربية وبقضية فلسطين، وبقي عازباً يعطي جُلَّ وقته لهذه القضية.