لنا – نحن معشر الكتّاب – أطوار وحالات وأمزجة! بعضها قد يشفّ عن شخوصنا رغم فنون التنكّر والتخفي، وبعضها يُدسّ بخبث تحت سجادة الكتابة كما يَدسّ الساحر الماكر منديله في كمّه، متغافلاً أو متذاكياً أو كليهما معاً.
البعض يكتب ليتأنق ويتجمّل، مثلما ينتقي الذاهب إلى حفلة أجمل قميص وأليق سترة وألمع حذاء. تاركاً وراءه ملابسه المكرمشة ووجهه الباهت ولهجته اليومية المعجونة بالبلادة أو الجفوة أو بشيء بينهما.والبعض يكتب ليثبت أنه لايزال على قيد الحياة وقيد الكتابة، لكي لا يظن القارئ – لا سمح الله – أنه مات أو أختُطِف أو هاجر إلى قارة لا تنبتُ فيه أبجدية للكتابة.فئة ثالثة تكتب لأنها اعتادت أن تقوم بهذا الفعل بشكل أوتوماتيكي ونمطي، تماماً مثل تفريش الأسنان وشرب القهوة والخروج للتريّض وسقي الزرع عند مدخل البيت. وكما تأتي هذه الأفعال مكررة وروتينية تأتي كتاباتهم مثلها، متوقَعة ومعروفة سلفاً، وقد تغْني قراءة أول سطر وآخر سطر عما بينهما من زحمة الحروف.وبعضهم يكتب ليعظ ويزجر ويرفع العصا في وجه العالم غير المهذب! فهو في منبره "العاجي" أكثر فهماً وأصدق تديناً وأنبل مقصداً وأكثر وطنية وأحدّ رؤية، يقف أمام جمهرة من المارقين والجهلة وأنصاف المتعلمين! وعادة ما يبدأ مواعظه بمقولة: "وقد سبق لي أن نبهتُ... " أو "ولطالما حذّرتُ في مقالي السابق..."! وهؤلاء يعانون لوثة السلطة أو التسلط التي توهمهم بها الكتابة، وربما كانوا في حياة سابقة معلمين فاشلين أو جلادين. وهناك من يكتب لأنه مصاب بمتلازمة إدمان العمل workholic. وهؤلاء يعيشون بأعصاب متوترة طوال اليوم، ويظنون أن العالم يعيش على حافة الترقب ليتلقف إنجازاتهم في كل لحظة. ولهذا فهم في سباق محموم مع أنفسهم ومع الوقت، موزعين انتباههم على أكثر من نشاط في آن، خشية أن يفوتهم قطار العمل. وهؤلاء تأتي كتاباتهم مثلهم، خاطفة متعجّلة، وموجودة دائماً أمام المتلقي على أكثر من صعيد وموقع، وفي أي مجال يتيح الانتشار والحضور.آخرون يكتبون لأن الكتابة وسيلة للكسب وباب من أبواب الرزق. فبضعة دنانير إضافية كل أسبوع أو كل شهر قد تسدّ حاجة أو تقضي شأناً. وهؤلاء لا تثريب عليهم ما داموا يعرفون أصول الكتابة ورسالتها، فالكتابة منذ الجاحظ والمتنبي وأبي حيّان التوحيدي كانت مهنة وصنْعة، ومصطلح "التكسّب" في الأدب والحياة كان شريفاً وراقياً ولايزال. بل انه في عصرنا باتت الكتابة المجانية تدل على السذاجة والغفلة، أو هي في أحسن الأحوال تفضّل وإيثار لا معنى لهما في عالم أصبح فيه لكل شئ سعر.والبعض يكتب استشفاءً، أي طلباً لراحة نفسية أو ذهنية لا يتحصلها إلا بالتعبير عن دواخله. والبُعد عن الكتابة قد يسبب له "حكّة" أو طفحاً جلدياً أو أعراض ربو وضيقاً في التنفس "على المستوى النفسي طبعاً"! أو قد يُصاب – وقانا الله وإياكم - بهلاوس بصرية وسمعية بسبب كبت ما يشعر أو يفكر به، فنراه يكلم نفسه أو يلاحق ببصره أشباحاً بعيدة أو يشرد متأملاً في اللاشيء. وهذه الأعراض ليس لها شفاء إلا بالانكباب على الورق أو شاشة اللاب توب، إلى أن يتمّ استخراج تلك "المؤذيات" بصورة لائقة.ومنهم مَنْ يكتب لأنه يخاف ألا يكتب، بعد أن باتت الكتابة هويته الوحيدة والمطلقة! فهو خارج الكتابة لا أحد، أو في أحسن الأحوال مجرد شبح على حافة الحياة. ومشكلة هؤلاء تتمثل في أنهم باتوا يرون العالم من خلال ثقب الكتابة، وأنهم بغير جبّتها عراة من الكينونة والتحقق. وعادة ما يستكثر هؤلاء على أنفسهم الخروج من سجن الكتابة إلى متع إنسانية أخرى أكثر عمقاً وثراءً، كالتنزّه أو السفر أو مشاهدة الأفلام أو اللعب أو مجرد الركون إلى الكسل واللاشيء لفترات تطول وتقصر. إذ سرعان ما يؤلمهم ضميرهم فيعودون إلى أقفاصهم، مخلفين الحياة الحقة وراءهم، دون اكتراث أو ندم! تلك بعض حالات العلاقة المعقّدة والملتبسة مع الكتابة، أو تلك بالأحرى إحالات إلى أكثر الأنشطة الإنسانية ألماً وكدحاً ومعاناة. يراها القارئ كمراكب من ورق تعبر في الريح، وما هي كذلك. ويراها آخرون مرضاً أو لهواً أو لوثة أو طفولة لا تنتهي. وأراها بكلمة موجزة اختراعاً يستعصي على التعريف.
توابل - ثقافات
«فترينة» الكتابة
18-11-2014