فن تفادي الحرب
بينما ينفجر الشرق الأوسط خلال سنوات من الصراع المنخفض الحدة بين فرق من السكوثيين، فلندع تركيا، ومصر، وإسرائيل، والمملكة العربية السعودية، وإيران تسعى إلى التوصل إلى توازن قوى بالغ الصعوبة، في حين تبقى الولايات المتحدة بعيدة عن هذه الصراعات إلى حد ما، فالحذر في النهاية لا يعني الاستسلام.
كان السكوثيون خيالة رحل سيطروا على جزء كبير من سهول بونتيك شمال بحر القوقاز في أوكرانيا وجنوب روسيا اليوم بين القرنين السابع والثالث قبل الميلاد، ولكن بخلاف الشعوب القديمة الأخرى التي لم تخلف أي أثر، ظل السكوثيون يثيرون الخوف والرعب حتى بعد رحيلهم، فقد ذكر هيرودوتس أنهم "روّعوا كل آسيا، ولم يكتفوا بأخذ الجزية من كل شعب، بل أغاروا أيضاً على هذه الشعوب ونهبوا كل ما تملك"، وعندما شهد نابليون استعداد الروس لحرق عاصمتهم بدل تسليمها لجيشه، سأل مراراً: "هل هم من السكوثيين؟".لكن العبرة المثيرة للاهتمام التي يستلهمها القارئ العصري لا تشمل وحشية السكوثيين، بل تكتيكاتهم ضد جيش داريوس الفارسي الغازي في مطلع القرن السادس قبل الميلاد، فبينما سار مشاة داريوس شرقاً قرب بحر أزوف، على أمل مواجهة فرق السكوثيين المقاتلة في معركة حاسمة، استمر السكوثيون بالانسحاب إلى عمق منطقتهم، فأثار ذلك حيرة داريوس، وأرسل إلى الملك السكوثي إدانثيرسوس تحدياً: "إن كنت تظن نفسك أقوى، فقف وقاتل، وإلا فاستسلم".
كان رد إدانثيرسوس أن شعبه لا يملك أي مدن أو أرض مزروعة ليدمرها العدو، لذلك لا يملك ما يدافع عنه، وبالتالي لا سبب له ليخوض معركة.بدلاً من ذلك، اكتفى رجاله بمضايقة الفرق الفارسية الغازية وتصادموا معها في بعض المواقع، ومن ثم انسحبوا بسرعة المرة تلو الأخرى، وفي كل مرة كانت فرقة صغيرة من الخيالة الفارسية تهرب بشكل عشوائي، وهكذا صار جيش داريوس الرئيسي يضعف، في حين راح يتقدم مبتعداً عن قاعدته وخطوط إمداده. نتيجة لذلك انسحب داريوس في النهاية من سكوثيا، وقد لحقت به الهزيمة من دون أن يحظى بفرصة للقتال.بكلمات أخرى، قتل العدو سهل، غير أن العثور عليه صعب، ويصح هذا في يومنا أيضاً، إذ باتت ساحة القتال اليوم أوسع وعدد المقاتلين فيها أقل، مقارنة بالمعارك الثابتة المدروسة في الحقبة الصناعية، فما الدروس التي نستمدها؟ لا تسعَ وراء أشباح ولا تتعمق كثيراً في مسألة لا يمكنك فيها الاعتماد على أفضليتك كشعب متمدن، أو كما قال الحكيم الصيني القديم سان تزو "الجانب الذي يعلم متى عليه أن يحارب ومتى من الضروري تفادي الحرب ينتصر، فثمة دروب يجب ألا تسلكها، وحروب يجب ألا تخوضها، ومدن مسوّرة يجب ألا تهاجمهما"، ولعل المثال الأبرز على ذلك البعثة الصقلية المشؤومة في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد التي وثقها ثوسيديديس. ففي هذه البعثة، أرسلت أثينا قوة صغيرة إلى صقلية البعيدة لتدعم حلفاءها هناك، إلا أنها سرعان ما انجرت أكثر إلى هذه الحرب، حتى أصبحت مكانة كامل إمبراطوريتها البحرية رهن انتصارها، وتُعتبر قصة ثوسيديديس هذه مؤثرة جداً عشية حربي فيتنام والعراق، فمع الإثنيين ومع داريوس، يتفاجأ الإنسان حين يلاحظ كيف يقود الفخر والسمعة قوة عظمى إلى مصير سيئ، فتبدو صورة جيش داريوس وهو يسير نحو المجهول في سهول وعرة، باحثاً عن عدو لا يظهر بوضوح، قوية إلى حد أنها تتخطى رمزيتها.لن يواجهك عدوك وفق شروطك أنت، بل شروطه هو؛ لذلك تُعتبر الحروب اللا متماثلة قديمة قدم التاريخ نفسه، فعندما زرع المتمردون الهاربون السيارات المفخخة وضايقوا البحرية والجنود في البلدات العراقية، تحولوا إلى سكوثيين. على نحو مماثل، عندما ضايق الصينيون البحرية الفلبينية وادعوا ملكية منطقة تضم سفن صيد، ومراكب لحفر السواحل، ومنصات لاستخراج النفط، متفاديين في الوقت عينه المواجهة مع السفن الحربية الأميركية، تحولوا إلى سكوثيين. وعندما يتسلح مقاتلو "داعش" بالسكاكين وكاميرات الفيديو، يتحولون هم أيضاً إلى سكوثيين، ويشكل هؤلاء السكوثيون السبب الأبرز الذي يحد من قدرة الولايات المتحدة على تحديد نتيجة الكثير من الصراعات، رغم قوتها العظمى.بدأت الولايات المتحدة تفهم حقيقة الإمبراطوريات الساخرة: تستمر عندما لا تخوض كل المعارك، ففي القرن الأول للميلاد، حافظ طيباريوس قيصر على روما بتفادي التدخل في الصراعات المستمرة والمدمرة خلف حدود الإمبراطورية الشمالية، وبدلاً من ذلك اعتمد الصبر الاستراتيجي، في حين راح يراقب المجازر، فقد فهم حدود القوة الرومانية.لا تطارد الولايات المتحدة الفرق المقاتلة في اليمن، على غرار داريوس في سكوثيا، إلا أنها تقتل أحياناً الناس من الجو، ولا يشكل استخدامها الطائرات من دون طيار دليلاً على القوة الأميركية، بل على حدود هذه القوة، وينبغي لإدارة أوباما أن تفهم هذه الحدود، وألا تسمح، مثلاً، للبلد بالانجرار أكثر إلى الصراع في سورية. فإن ساهمت الولايات المتحدة في الإطاحة بالحاكم المستبد بشار الأسد يوم الأربعاء، فماذا ستفعل يوم الخميس حين تكتشف أنها شاركت في إيصال نظام سني مجاهد إلى السلطة، أو يوم الجمعة حين يبدأ التطهير الإثني للعلويين المنتمين إلى الشيعة؟ ربما هذه معركة من الضروري تفادي خوضها، كما استخلص سان تزو، لكن الأسد قتل عشرات الآلاف وأكثر، وهو يحظى بدعم الإيرانيين. هذا صحيح، ولكن تذكروا أن المشاعر، مهما كان صائبة، فقد تكون عدو التحليل المنطقي.إذاً، كيف تستطيع الولايات المتحدة تفادي مصير داريوس؟ كيف يمكنها أن تتجنب الهلاك بسبب الكبرياء، متممةً في الوقت عينه مسؤوليتها الأخلاقية كقوة عظمى؟ يجب أن تستعين بالمجموعات الموالية لها حيثما أمكن، حتى بين الخصوم، فإن كان الحوثيون الذين يحظون بدعم إيران في اليمن مستعدين لمحاربة تنظيم "القاعدة" في هذا البلد، فلمَ يجب أن تعارضهم الولايات المتحدة؟ وإن أشعل الإيرانيون مرحلة جديدة من الحرب الطائفية في العراق، فلنتركهم وشأنهم لأنهم هم أيضاً يخفقون في فهم درس السكوثيين. وبينما ينفجر الشرق الأوسط خلال سنوات من الصراع المنخفض الحدة بين فرق من السكوثيين، فلندع تركيا، ومصر، وإسرائيل، والمملكة العربية السعودية، وإيران تسعى إلى التوصل إلى توازن قوى بالغ الصعوبة، في حين تبقى الولايات المتحدة بعيدة عن هذه الصراعات إلى حد ما، فالحذر في النهاية لا يعني الاستسلام. وأخيراً لندع الولايات المتحدة ترجع إلى أصولها كقوة بحرية في آسيا وكمدافع على البر في أوروبا، حيث يقل السكوثيون ويزداد عدد الأشرار العاديين. يُعتبر السكوثيون ألد أعداء الأمم التي تحاول إنجاز مهمات كبيرة، تلك الأمم التي لا تلتزم بأي حدود، ولا شك أن على الولايات المتحدة أن تسعى إلى تحقيق أهدافها، إنما من دون أن تبالغ مثل داريوس.