في مقدّمة تحت عنوان «من القلب إلى القلب»، تصرّح سوسن الرمّاح في «لك حق التوقيع» بأنّها تعلّمت من الحياة ملْء دفترها الفارغ، وهل فعل كبار الأدب سوى محاولتهم ملء دفاترهم الفارغة؟! وترى الرمّاح الكلمة ظلّاً لدمعة، أو مسند رأس لجرح، أو اسماً للموت ذي الأسماء الكثيرة: ..أجعل من الدمعة كلمة، ومن الجراح فاصلة، ومن الموت عبارة»، وتلوذ بألم عميق الماء إذ إنّها تحيا لـِ «إكمال الصرخة الأولى»، في حين أنّ البعض لا تزعج الرياح خاطر أشرعته، فيصل إلى عسل آخر الصرخة، ويمضي نحو عسلٍ آخر.
ولافتٌ اعتراف الرمّاح بأنّها ليست من ملوك التشبيه والزخرفة إنّما أتت كتابتها تحدّياً لبيئة موهوبة في صناعة السلاسل والقيود، وعليه، فإنّها تنشدُ تشجيع قارئها بلغة تحمل المحبّة بين جناحيها: «إنّها خطواتي الأولى، أتهادى بها بين أزاهير محبّتكم وعطر تشجيعكم».تفتح الرمّاح بابها للحبّ فتحة كاملة، وتجد في الغياب حضوراً، لذلك تمتطي فرس الغياب البيضاء وتسمع صوت حبيب في صهيلها طالما أنّ الغائبين ترمي ذاكرتنا عليهم شباك الفرح: «كي أستبقيك في ذاكرتي حلماً دافئاً/ قرّرت أن أغيب/ فوحدهم من يغيبون عنّا/ نستحضرهم بفرح...». والحبّ عند الرمّاح مستحيل يحدث أن نراه بين اليدين، وفردوس لقدّيسيه، فكيف إذا كان لأصحاب ذنوب: «لي معكَ أكثر من شتاء رائع/ كروعة الجنّة إلى مذنب». وتسقط الرمّاح في تجربة السجع مثلما تخذلها أحياناً اللغة المكثّفة: «قصّتي معك تضيع/ تنهار أحلامي/ وتصبح أنت بمنصب رفيع/ ولك حقّ التوقيع»...والرمّاح تعيش الحبّ بالرغبة، تمدّ له بساط عمرها في ظلال الحنين الموشوم بالألم، فهي تحبّ بكلّ ما في السجين من اشتهاء لحياة يسكنها النور، وبكلّ ما في السواد من توق إلى أن يكون البياض، غير أنّ الحبيب حاكم يرتاح للسجون التي تتناسل فيها الظلمة: «... كسجين يهوى الحياة/ كسواد يتمنّى أن يكون بياضاً/ ... كم شوقي إليك مثير للسخرية يا صديقي الحاكم!».وتفتح الرمّاح ملف المرأة الشرقيّة على طريقتها، وتخاطب سيّدها القاتل، العائد إليها لأجل ذبحة ثانية: «وها أنا أراك تعاود ذبحي/ تعيد جريمتك بامتياز»، وتصفّق له بجناحين يرتديان الجروح ريشاً، باعتبار نساء الشرق يقرأن قسراً القاموس الذي لم تزره يوماً كلمة «لا»، فهنَّ المرغمات على حمل ألف ألم وألم في حين أنّ البكاء محظّر على عيونهنّ: «ففي شرقنا لا يسمح للنساء بقول: لا/ لا يسمح لهنَّ بالبكاء».وتشتاق الرمّاح إلى أصلها المائيّ، تائقة إلى حياة لا تجدها إلّا في سلّة من سلال الحبّ، بعيداً من لعبة الجسد. ما يعني أنّ ألمها ضريبة من ضرائب الروح الكثيرة: «أحتاجك لكي تخلّصني.../ وتلقي بي في مائك/ لعلّي أعود إلى أصلي». ويظهر بوحُها أنّها تريد من خلال الحبّ تعويض الخسائر الحياتيّة والوجوديّة كلّها، فكأنّها تبحث عن رجل متعدّد مطلوب منه كلّ شيء، وفي المقدّمة مصالحة الرمّاح مع الحياة التي سبق وخذلتها. وواضح أنّ الحبّ يزور الشاعرة، لكنّه لا يقيم طويلاً في ظلال قلبها، وهي رغم ذلك تراهن عليه كمن يراهن على غيم يزور ولا يمطر، يفتح أشرعته على علوّ شاهق غير أنّه لا يجود بقطرة. وتتساءل الرمّاح إذا كان الرجل يعرف ما معنى أن تحبّ امرأة رجلاً وتعطيه كلّ ما في اليد والبال معتبرة إيّاه أولّ الرجال وآخرهم: «فلا أحد يعلم معنى أن/ تهب أنثى جميع ممتلكاتها/ لرجل واحد دون سواه». وإذا كان الحبّ لا يتجاوب مع لغة الأرض، فلا بدّ من الاستعانة بالسماء، كما في نص «زنزانة 48»، حيث تعلن الرمّاح أنّ الحياة تعادل السجن: «سوف أكتب للسماء/ ما دمت في سجن/ قائده عميل للدُّمى». وتوقن أنّ أذن السماء: «تتقنُ فنّ الإصغاء»، وهي تريد التفلّت من سجن جغرافيّ أيضاً لتنسج اللقاء في شوارع «لندن»، راغبة في ارتداء فستان اشترته من مدينة الأبراج التي قد تكون عاصمة السجون: «سوف أرتدي الفستان/ الذي ابتعته من مدينة الأبراج/ في زنزانة رقمها ثمانية وأربعون»...وفي نصّ «قيد التحقيق» ترجع الرمّاح من محكمة السماء إلى ما يشبه محكمة الأرض، وتُلبِسُ رَجُلها ثياب الإتّهام، من دون أن تشعره بالخوف، رغم أنّها القتيل على الأرض: «ما زال المتّهم قيد التحقيق/ الأوراق على طاولة الشرطيّ/ القتيل ما زال مرميّاً»... وتحت ضغط التحقيق، والجوّ الملبّد بالقلق، تمسح المتّهمةُ جبيـــن المتّهـــم بزيـــت الســلام والإغراء بالعــفــــو،هاديةً إيّاه احتمال الفرار أيضاً: «ما زال بوسعنا أن نبقى أصدقاء/ ما زال هناك وقت للفرار». وتشرح الجريمة التي تعرّضت لها برمزيّة شفافة، فالفاعل عرف كيف ينجّي أصابعه من ممسك البصمات، كي يبقى خارج شباك العدالة: «هنا لا آثار لبصمتك على/ أكواب الحبّ المهترئ/ داخل عذراء...». والرمّاح الضحيّة تتحوّل محامي دفاع عن المسيء إليها، وتسعى إلى براءته، لا لأنّها تثق بها، إنّما لأنّها لا تقوى على أن تكون ضيفة.في «لك حق التوقيع» كتبت سوسن الرمّاح وجع الحبّ الجميل. كتبته بجماليّة ناضجة في مكان وتحتاج إلى بعض النضج في مكان آخر. وهي تستطيع شيئاً فشيئاً التخلّص من الهدر اللغويّ، أو من العبارة التي لا تتّصف بخصوبة الظّلال، وصولاً إلى الجملة الممتلئة التي تشبه صاحِبَها.
توابل - ثقافات
سوسن الرّماح في «لك حق التوقيع»
06-01-2015