كثيراً ما تنعكس الأزمان التي نعيش فيها بكل وضوح في مرآة الفن، وعلى ذلك كانت الكتابات التي تناولت مرحلة ما بعد الشيوعية في روسيا والصين كثيرة، ولكن فيلمين حديثين، هما "لمسة الخطيئة" للمخرج جيا تشانج كه الذي أنتج في الصين عام 2013، وفيلم "الطاغوت" للمخرج أندري زفيانتسيف الذي أنتج في روسيا هذا العام، يكشفان عن المشاهد الاجتماعية والسياسية في هذين البلدين بشكل أكثر دقة من أي شيء قرأته مطبوعاً.

Ad

يتسم فيلم جيا بالعَرَضية؛ فهو يتناول أربع قصص لا ارتباط بينها عن أفعال منفردة تتميز بالعنف الشديد، وأغلبها مقتطف من تقارير صحافية معاصرة، بينما يدور فيلم "الطاغوت" حول رجل محترم تتهدم حياته على يد عمدة مدينته بالتواطؤ مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والقضاء الفاسد.

وكل من الفيلمين مذهل على المستوى البصري، برغم كآبة قصته، إذ تبدو السماء الداكنة فوق الساحل الشمالي الروسي في فيلم الطاغوت فاتنة، ويتمكن جيا من إظهار الغابة الخرسانية الزجاجية في شينتشن، المدينة الموحشة الواقعة بين جوانجتشو وهونغ كونغ، في مظهر ساحر فائق الجمال، والشيء الآخر المشترك بين الفيلمين هو الافتتان بالقصص الأسطورية، سِفر أيوب في فيلم الطاغوت، وفنون الدفاع عن النفس الخيالية في فيلم لمسة الخطيئة.

وتلعب الأملاك العقارية دوراً رئيسياً في الفيلمين، ففي القسم الأول من فيلم لمسة الخطيئة أصبح الحاكم المحلي مليارديراً يملك طائرة خاصة من خلال مصادرة وبيع كل الأصول العقارية الجماعية في منطقته، وكل شيء في هذه الصين الجديدة، حيث لا يزال الحزب الشيوعي الصيني يحكم، ولكن مع وفاة أفكار كارل ماركس كما توفيت في روسيا ــ معروض للبيع، حتى زخارف الماضي التي تعود إلى زمن ماو تسي تونغ، ففي أحد المشاهد نرى فتاة ليل في ملهى ليلي تحاول إغواء رجال الأعمال الصينيين القادمين من الخارج بالاستعراض إقبالاً وإدباراً في رداء مثير مستوحى من أزياء جيش التحرير الشعبي.

وتركز قصة الطاغوت على منزل بناه ميكانيكي يدعى نيكولاي، حيث يستولي عمدة المدينة الفاسد على أملاكه في مقابل رشوة حصل عليها من الكنيسة الأرثوذكسية لمنحها حق بناء كنيسة جديدة على أرض نيكولاي الذي يتم التخلص منه باتهامه زوراً وبهتاناً بقتل زوجته ثم محاكمته أمام محكمة مرتشية. الواقع أن أهمية الأملاك العقارية في الفيلمين ليست من قبيل المصادفة، فالعقارات والبناء والأرض هي العملات المشتركة للسلطة في مجتمعات المافيا في الصين وروسيا على نحو لا يقل فظاظة عنه في صقلية. وأحد الأسباب وراء تحول الصين إلى موقع بناء ضخم، مع ظهور مدن جديدة ضخمة بين عشية وضحاها تقريبا، هو أن هذا القطاع هو الذي يقود الاقتصاد الملتهب الشديد الفساد، والذي يحكمه حزب لينيني حوّل السلطة السياسية إلى مال من خلال مصادرة الأصول والبناء.

ولا يهم كثيراً أن حزب روسيا المتحدة بزعامة الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، على النقيض من الحزب الشيوعي الصيني، لا يدّعي أي شكل من أشكال الأيديولوجية الماركسية، فالطريقة التي تعمل بها الحكومة في كل من البلدين متماثلة إلى حد كبير، حيث يقتسم زعماء الحزب وكبار رجال الأعمال والبيروقراطيون الفاسدون الغنائم، في حين يروجون للنزعة الشوفينية و"القيم التقليدية"، سواء كانت تلك التي تبثها الكنيسة الأرثوذكسية أو تعاليم الكونفوشيوسية، والقضاة إما يُشتَرون أو يُمارَس ضدهم الإرهاب لضمان بقاء الزعماء فوق القانون.

في روسيا، انتُخِب حزب بوتن، كما انتُخِب حزب الرئيس رجب طيب أردوغان (العدالة والتنمية) في تركيا، وحزب رئيس الوزراء فيكتور أوربان (الحزب المدني المجري) في المجر، ونظام الرئيس عبدالفتاح السيسي العسكري في مصر، ولم يُنتَخَب الحزب الشيوعي الصيني، ولكن هذا أيضاً لا يهم كثيراً، إذ إن ما تشترك فيه هذه الحكومات هو الاندماج بين المؤسسة الرأسمالية والاستبداد السياسي.

ويُنظَر إلى هذا النموذج السياسي الآن باعتباره منافساً خطيراً للديمقراطية الليبرالية على الطريقة الأميركية، وربما كان هذا صحيحاً، ولكن أثناء الحرب الباردة، كانت الرأسمالية الاستبدادية، بقيادة أنظمة عسكرية عادة، مناهضة للشيوعية وموالية لأميركا إلى حد كبير، فكان رجل كوريا الجنوبية القوي باك تشونج هي، والد الرئيسة الحالية باك كون هيه، رائداً على أكثر من نحو لهذا النمط من المجتمع الذي نراه الآن في الصين وروسيا، وكذلك كان الجنرال أوجستو بينوشيه في شيلي.

ولأن الديكتاتوريات في الدول العميلة لأميركا انتهت بانتهاء الحرب الباردة تقريباً، وحلت محلها ديمقراطيات ليبرالية، فقد اطمأن كثيرون إلى اعتقاد مريح مفاده أن الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية ستترافقان بطبيعة الحال ــ بل وحتماً ــ في كل مكان، لأن الحرية السياسية مفيدة للأعمال التجارية، والعكس صحيح.

والآن تحطمت أسطورة القرن العشرين العظمى هذه، وقد زعم أوربان في وقت سابق من هذا العام، أن الديمقراطية الليبرالية لم تعد نموذجاً قابلاً للتطبيق، واستشهد بالصين وروسيا بوصفهما بلدين أكثر نجاحاً، ليس لأسباب إيديولوجية، بل لأنه يعتقد أنهما أكثر قدرة على المنافسة في عالم اليوم. ولكن هناك من الأسباب ما يدعونا إلى الشك في هذا، ذلك أن الاقتصاد الروسي يعتمد اعتماداً كبيراً على النفط وغيره من الموارد الطبيعية، وقد تنهار شرعية الحزب الواحد في الصين بسرعة في أي أزمة اقتصادية، والطريقة التي تستخدم بها الأنظمة غير الليبرالية القانون لتحقيق غاياتها الخاصة لن تلهم المستثمرين الثقة أيضا، على الأقل ليس في الأمد البعيد.

ورغم هذا فإن المجتمعات التي تصوَّر بشكل بالغ القسوة في الفيلمين تظل في الوقت الحالي تتمتع بجاذبية في نظر كثيرين من أولئك الذين خاب رجاؤهم إزاء الركود الاقتصادي في أوروبا والخلل السياسي في أميركا، والواقع أن رجال الأعمال والفنانين والمهندسين المعماريين وغيرهم، ممن يحتاجون إلى مبالغ ضخمة من المال لتمويل مشاريعهم المكلفة، يستمتعون بالعمل مع الأنظمة الاستبدادية القادرة على "إنجاز الأمور". ويُعرِب المفكرون غير الليبراليين من جناحي اليمين واليسار عن إعجابهم بالرجال الأقوياء الذين لا يتورعون عن تحدي أميركا.

لقد حظي فيلم لمسة الخطيئة بقدر عظيم من الإشادة والاستحسان في مختلف أنحاء العالم، باستثناء الصين، وعلى النقيض من ذلك، قُدِّم فيلم الطاغوت باعتباره المشاركة الرسمية لروسيا في مسابقة الأوسكار. ولعل قادة الصين أقل ثقة في أنفسهم من بوتن، أو لعل بوتن أكثر منهم دهاءً ومكراً، ذلك أن أتباعه في روسيا من غير المرجح أن يشاهدوا فيلماً فنياً، ناهيك عن التأثر به، وربما تقنع هذه اللمحة من حرية التعبير الروسية الأجانب بأن ديمقراطية بوتن الاستبدادية لا تزال تنعم ببقية من ليبرالية، على الأقل إلى أن يتحطم هذا الوهم أيضاً.

* إيان بوروما | Ian Buruma ، أستاذ الديمقراطية وحقوق الإنسان والصحافة في كلية بارد، ومؤلف كتاب "العام صفر: تاريخ من 1945".

«بروجيكت سنديكت» بالاتفاق مع «الجريدة"»