في «توقيع ولاءٍ للبنان» يرى موسى بكارة الأوطان صفة لبنان الأولى، ويرسمه بكلماته حرفاً تألّق قنديلاً على ظهور الموج إلى مطارح الأرض كلّها، وشراعاً أيقظ الماء الأزرق وحرّضه على المغامرة: «أنت حرف من صيدون، وكتاب من جبيل، وشراع من طبرجا، وضربة مجذاف من صور، تحمل إلى البعيد البعيد... انفتاحاً وحروفاً نزعْتَها من صميمك هي للإنسانيّة نبراس حضارة ونور هداية». وعلى كتفَي موسى ترتاح عباءة من فيء الأرز الذي علا بفرح وإباء ليكون ابتسامة حين الدهور تعوزها ابتسامة، وليكون الأغنية حين التاريخ يرغب في نَغَم يُشعر حنجرته بأنّها لا تزال على قيد الحياة: «أرز بلادي بسمة الدنيا على فم الدهور، وأغنية المجد في حنجرة التاريخ»... وأرز الشاعر بعض من سماء في هيكل سليمان وبعض من فتح فكريّ في سفينة المعلّم اللبناني الأوّل: «أرز بلادي رنّة الخشب في هيكل سليمان، ... ومجد الأبجديّة في سفينة قدموس»...

Ad

وفي «أحبّ كلمة عندي» رسم تقريبيّ لموسى، إذ هو يتوق إلى كلمة تحتضن الألوهة: «تحمل اسماً فيه معنى الألوهة»، ويجري في عروقها نسغ الكرامة: «صاحبها سلطان العنفوان»، ورَجُلُها ذو جبين ينضح حقّاً وخيراً وجمالاً: «عريسها يختصر الجمال والخير والحقّ»، وتجتاح حقولها عاصفة من العواطف: «لَبّها عاطفة حارّة»، ويصلّى لها وبها في محراب العقل والقلب الأبيضين فتصير حروفها قفير سلام ومحبّة: «قدسيّة هي ومقدّسة. شريعتها السلام، شرعتها المحبّة»... وترتقي الكلمة إلى أن تمسي كرسيّاً لسماء، شرط أن تكون طالعة من قلب لبنان.

صيد ثمين

في «بياني الشعريّ»، يعلن منيف موسى، شاعراً، أنّه يلوذ باللفظ عندما يزيد إلحاح الصورة عليه وتغريه شبكة خياله بأن يكون صيدها الثمين: «أكتب الشعر باللفظ والتعبير، لتشكيل الصورة التي تلحّ عليه». وهو الكلاسيكيّ، العارف كيف تجاذب القوافي وكيف يُنسَج الموج في بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي، يعترف بأنّ قصيدة اليوم تستطيع وجودها بلا وزن وقافية: «لم يعد الوزن ضرورة ولا القافية»، وبذلك يقرّ موسى بأن الموسيقى الداخليّة كافية لاحترام هدير الشّعر: «الهدير الداخليّ – وحده – هو الذي يحدّد مسار الشّعر»، أمّا عن الكلمة في الشّعر، فالكلمة بحدّ ذاتها تليق بالشّعر دائماً أيّاً تكن، إلاّ أنّ السرّ يبقى باختيار مكانها، بعد اختيارها، إذ إنّ الجملة الشعريّة تحكمها عدّة شروط ليس أوّلها المعنى وليس آخرها الصورة: «ليس هناك كلمة شعريّة وكلمة غير شعريّة، هناك استخدام صحيح للفظة، لأجزاء الصورة التي تكوّن اللوحة الشعريّة المرتجاة». وبحسب موسى، إنّ الحداثة مسألة تجتاز الشكل: «وهي تتطلّب انقلابات على مختلف الصّعد لتغيير المفاهيم الموروثة والمجذّرة في أعماقنا».

وفي «بياني الفكريّ» كلام لافت للشاعر عن الحرّيّة، التي يراها مطلقيّة في الإبداع دون غيره، كي لا تتحوّل تخريباً. ويعود موسى ويقول مستدركاً: «التفلّت فوضى حتّى في الإبداع، إذا كان ثمّة تفلّت يعني ضياع أصول الإبداع حتّى في الحرّيّة».

وجدير بالذكر أن منيف موسى المنظّر يلتقي ومنيف موسى المطبِّق، لأنّه ذهب مع الحرّية والحداثة الشعريّة إلى أبعد حدّ وبقي ملتزماً بثوابت تحمي إبداعه نصّيّاً، رغم أنّ الكثيرين من شعرائنا ونقّادنا – إذا بقي عندنا نقّاد – يسمّون كلّ ثابتة تقليداً وكلّ شرط كتابيّ سلسلة ثقيلة على عنق القلم...

وتحضر في «المنيف» أبحاث لعدد من أهل النقد والكلمة الذين حاولوا الغوص على اللؤلؤ في محبرة منيف موسى. فرأت الدكتورة ريما نجم بجّاني في عالم العبقريّة الخلاّقة، نحّاتاً وشاعراً وناقداً وأديباً ولغويّاً... وأطالت الوقوف تحت قناطره الشعريّة فشهدت لفطريّة شاعريّته ولتأسيسه: «مدرسة شعريّة جديدة في الشعر العربي المعاصر، وفي الحداثة الشعريّة العربيّة»، كما اعترفت له: «بامتلاكه حتى حدّ الكمال أصول الفنّ العروضي الكلاسيكي»...

أمّا الناقد أنطوان أبو رحل فكتب عن موسى بحّاثة جمال معبّئاً نصف قرن بالروائع: «وُهِب ليكون في الهيكل كاهناً كبيراً من لابسي الأرجوان. الجمالية بالنسبة إليه كهانة وعبادة». وفي قرارة موسى يستنتج أبو رحل أنّ الأدب لا يمكن أن يكون الوسيلة إنّما: «هو متعة مجّانية»، وأنّ موسى يؤمن كما موريس دريون: «الأدب يمنح وجوداً للأشياء التي يسمّيها». وتصل شهادة أبو رحل لموسى بأنه ذو قدرة على «الصرعة البكر، أو البصمة البكر»، ويروق له أن يسمّيها: «النقزة الإبداعيّة»... وعن موسى وولعه باللغة على معرفة عميقة وخبرة وتجربة ناضجة يقول الناقد: «منيف موسى عشيق اللغة، واللغة عشيقته. معاً يَغويان ويُغويان... كلاهما مطيع للآخر، بقناعة، بليونة، بإغواء، بحبّ»...

سخاء قلب

ولم يفت الشاعر سعيد عقل يعطّر مسيرة موسى الإبداعيّة بكلمات هي من سخاء قلب وعقل وصدق، فصنّف المنيف مع معتمري التيجان، «هذا ألا يكفي، في هذا العصر، ليكون صاحب النتاج على طريق الشاعريّة؟»، ووجد في شعره البناء والنغم الحلو والطرافة، وتنبّأ له بغد نسريّ حين رآه فرخاً يحاول وشم جناحيه على ذاكرة الهواء: «ما أجمل أن ترى فرخ النسر يتدرّب على تحريك الجناح»، ولم يقتنع عقل بأنّ موسى يتكلّم على الموت في قصائده إنّما أخذ الموت الموسويّ إلى ضفّة الحياة: «حقّاً إنّها لمواسم، وسنبلها الحبّ. أمّا الموت فمقحم فيها إقحاماً، قصد أن يقول الحياة». وعن منيف موسى الكاتب بطولات لبنان تحوّلت ريشة الشاعر ريشة أسطوريّة، لها أن تكتب كلّ شيء حتى السيف: «سلمت ريشة تكتب السيف».

الشاعر منيف موسى حاضر بصدق في ما قيل فيه وفي ما قاله، ولا شكّ في أنّ لحصانه صهيلاً فريداً في أكثر من ميدان، وأجمل ما يميّزه بساطة كتلك التي للجمال في قوافيه، وتواضع كذلك الذي للمعاني النبيلة وهي تستوطن صدور كلماته.

و«المنيف» على غناه ونبل مضمونه لا يستطيع اختصار منيف موسى إلاّ على سنّة الشاعر عمر أبو ريشة: «بعض الربيع ببعض العطر يُختَصَرُ».