اللغة العنيفة
![د. ابتهال عبدالعزيز الخطيب](https://www.aljarida.com/uploads/authors/991_1667658654.jpg)
ولهذا التمييز اللغوي دلالات واضحة ونتائج وخيمة على التقييم الإنساني للمرأة في الوعي العربي الإسلامي. فكما يقول د. أبوزيد، إن من بين دلالات التمييز هناك تاء التأنيث التي بين الجنسين وهناك منع التنوين عن اسم العلم المؤنث كما عن اسم العلم الأعجمي، وتلك هي طائفية وعنصرية لغوية لا ضد "الأغيار فقط بل ضد الأنثى من نفس الجنس كذلك" (30). هذه الأيديولوجية (يؤكد الدكتور) "تمتد لتشكل العالم بكل مفرداته من خلال ثنائية المذكر/ المؤنث... ولا مجال في اللغة العربية للأسماء المحايدة"، هذا بخلاف أن اللغة تعامل جمع الإناث على أنه مذكر إذا كان بينهن رجل واحد فقط "وهكذا يلغي وجود رجل واحد مجتمعاً من النساء، فيشار إليه بصيغة جمع المذكر لا بصيغة جمع المؤنث" (31)، وهذا يذكرني بتجمعات أفراح الزواج عندنا في الدول الخليجية، والتي حين يعلن فيها عن قدوم رجل واحد، تضج القاعة بالسيدات الراكضات في الأنحاء لتغطية شعورهن وإخفاء زينتهن ولبس عباءاتهن، وكأن هذا الواحد يمتلك سيطرة ذهنية وجسدية تامة على جميع الحاضرات.بالطبع (يؤكد د. أبوزيد) ليس ذلك هو وضع اللغة العربية فقط، ولكن تشاركها في تلك المحنة الأيديولوجية الكثير من اللغات الإنسانية، إلا أن لغات الشعوب الأكثر تحضراً تسعى إلى تغيير أيديولوجيتها الخطابية باستخدام ضمير شمولي they في الخطاب مثلاً، وبتحييد أسماء الوظائف مثل chairperson وspokesperson (32). لكن لغتنا العربية تقاوم مثل هذا التغيير رضوخاً أمام فكر تمييزي قديم، وهو الفكر الذي أصبح متجذراً عميقاً في النفوس، حتى أصبحت هي العدسات التي نرى من خلالها العالم وبها نرسخ هذه العنصرية أكثر فأكثر في اللغة.يؤكد د. أبوزيد أن هناك "وعياً متميزاً تمثل في لغة القرآن التي خاطبت النساء كما خاطبت الرجال، بعد أن كان خطاب النساء يتم بطريقة غير مباشرة من خلال خطاب الرجال"، إلا أن هذا الوعي الخطابي القرآني "دخل في صراع مع الوعي الذي تمثله اللغة من خلال الصراع المركب والمعقد جداً على أرض السياسة أولاً، ثم على مساحة الفكر الديني والثقافة العربية كلها بعد ذلك" (36-37). وعليه اختفت المحاولة القرآنية في تحقيق ذات متساوية للمرأة مع الرجل في طيات الظروف الاجتماعية والسياسية للعرب والمسلمين طوال عقود طويلة من الصراعات الطائفية والمذهبية والسياسية، حتى اختفت كينونة المرأة لغوياً تماماً في كينونة الرجل، وتأسست تبعيتها بتجذر عميق.إن التمييز اللغوي ضد المرأة، والذي يجعل منها "جنساً ثانياً"*، ليس نتاجاً بقدر ما هو مسبِّب غارس لفكرية هامشيتها وانطوائها تحت الجناح الرجولي، وهو انطواء ترسخ منذ القصة الأولى لخلق المرأة من ضلع الرجل، وحتى القصص الأخيرة لعطبها الجسدي في حال قيادتها للسيارة، قصص عطب وتهميش جسدي نؤكدها و"نبصم" عليها كل يوم من خلال لغتنا وثقافتنا ومفاهيمنا المتجذرة. حتى يتغير وضع المرأة، لابد أن تتغير اللغة التي تعبر عنها، وبلا ذلك تظل المرأة معنفة واللغة وسيلة قهر خطيرة. *الجنس الثاني عنوان كتاب في الفلسفة النسوية لسيمون دو بوفوار