مؤشرات مختلطة حول السياسة النقدية الأميركية

نشر في 08-11-2014
آخر تحديث 08-11-2014 | 00:01
هناك أسباب عديدة تتعلق بمبررات استمرار مجلس الاحتياط الفدرالي في شراء الأصول، في ظل مؤشرات على خروج أسواق العمل من حالة الانكماش، مع وجود شريحة واسعة من الأخطار الخارجية، ومن هذا المنطلق يتعين على «الفدرالي» أن يحاول تجاوز هدفه من أجل بناء منطقة حماية إضافية في وجه هبوط التضخم ومعدلات الفائدة.
 إيكونوميست أعلن مجلس الاحتياطي الفدرالي أخيراً إنهاء برنامج التيسير الكمي، وسنستعرض هنا تداعيات ذلك القرار، وما إذا كان البرنامج نجح في تحقيق أهدافه المعلنة؟

في ظاهر الأمور تبدو تلك الخطوة مبررة تماماً، فقد انخفض معدل البطالة في الولايات المتحدة الشهر الماضي الى 5.9 في المئة فقط، بينما أضافت الشركات خلال السنة المنتهية في سبتمبر 2.6 مليون وظيفة جديدة، وكان ذلك الأداء الأفضل في 12 شهراً من التعافي الاقتصادي، كما أن مكتب التحليل الاقتصادي قال قبل أيام إن اقتصاد الولايات المتحدة حقق نمواً بنسبة 3.5 في المئة في الربع الثالث، محسوباً على أساس سنوي، وكان ذلك الأداء القوي الثاني على التوالي بعد وتيرة النمو السنوي عند 4.6 في المئة، التي تمكن الاقتصاد الأميركي من تحقيقها في الربع الثاني.

خطوة قصيرة النظر

ويجادل العديد من المراقبين في أن مجلس الاحتياط الفدرالي كان محقاً في ما ذهب إليه، ولكن خطوة ذلك المجلس تبدو قصيرة النظر وتنطوي على مخاطر عديدة، وسوف أشرح ذلك على النحو التالي:

توجد أسباب عديدة تتعلق بمبررات استمرار مجلس الاحتياط الفدرالي في عملية شراء الأصول، وثمة مؤشرات قليلة على خروج أسواق العمل من حالة الانكماش، كما توجد شريحة واسعة من الأخطار على صعيد الخارج. ومن هذا المنطلق يتعين على "الفدرالي" أن يقوم بمحاولة تجاوز هدفه من أجل بناء منطقة حماية إضافية في وجه هبوط التضخم ومعدلات الفائدة، إلى آخر ما هنالك، ولكن الكل لن يصدقوا أن تلك العوامل تشكل أسباباً جيدة من أجل المضي في عمليات شراء الأصول، وعلى هذا المبدأ يتعين علينا التمسك بوجهة النظر الأساسية القائلة إن مجلس الاحتياط الفدرالي يخاطر بشدة بخطوته الأخيرة التي قد تقوض مصداقية ملاذه.

وعلى سبيل المثال، في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كانت البنوك المركزية المستقلة تكافح لمواجهة معدلات التضخم العالية من جهة، وإدراك الأهمية التي تنطوي عليها التوقعات من جهة أخرى، كما أن الاقتصادات شددت على أهمية تأسيس ملاذ آمن موثوق ينطوي على تنوع يخضع بصورة تامة لسيطرة البنك المركزي يستخدمه من أجل تأسيس قاعدة لرسم السياسة ولقياس أدائه.

وكانت الملاذات القوية بالغة الأهمية بالنسبة إلى التحكم في معدلات التضخم، وكان يعتقد أن تحقيق ملاذ واحد يجب أن يساعد على تنسيق التوقعات العامة المتعلقة بمعدلات تضخم أدنى مرغوبة، كما أن تحديد هدف معلن ينطوي على مغامرة كبيرة بالنسبة الى سمعة البنك المعني، نظراً لأن أي فشل سوف يكون ظاهراً للجميع، وعلى هذا الأساس كان من الأسهل أن يلزم البنك المركزي نفسه بتحقيق الهدف المعلن.

وبمجرد الانتهاء من مسألة التضخم، اتخذ الملاذ الاسمي دوراً جديداً على شكل قوة استقرار أكثر عمومية، وإذا وجدت العامة أن الهدف موثوقاً فإن البنك المركزي لن يكون في حاجة الى العمل بجهد كبير لمواجهة الهزات المحتملة في أي اتجاه، وعلى هذا الأساس سوف تكون الشركات والطبقة العاملة أقل ميلاً إلى التحرك في ردة فعل على الابتعاد المؤقت عن الهدف عبر تعديل الأسعار أو المطالبة بتغييرات في الأجور من أجل مواجهة الوضع الجديد. ويتعين أن يفضي ذلك، بدوره، إلى إعادة الهدف الى المستوى المرغوب والمطلوب وأن يحسن المستوى الاقتصادي كذلك.

تنوع الملاذ الآمن

لقد تنوع الملاذ الآمن واختلف بين دولة وأخرى بمرور الوقت، وكان مجلس الاحتياط الفدرالي عمل منذ زمن بعيد من اجل تحقيق هدف غير رسمي للتضخم على شكل وحدة ملاذ آمن حتى يناير 2012، عندما أعلن أن تفويض مجلس الاحتياط الفدرالي ينص على تحقيق الحد الأقصى من التوظيف وفرص العمل واستقرار الأسعار (مع تفويض فرعي من اجل تحقيق معدلات فائدة معتدلة واستقرار مالي).

وبحسب رأي مجلس الاحتياط الفدرالي فإن الطريقة الأفضل لتحقيق تلك الأهداف تتمثل في استهداف معدل تضخم يصل الى 2 في المئة، وذلك وفقاً لمؤشر الأسعار الخاص بإنفاق الاستهلاك الشخصي. وهذا تشدد نقدي من أعلى مستوى، وقد صدر بصورة مباشرة عن مجلس الاحتياط الفدرالي، واتسم بأعلى درجة ممكنة من الوضوح.

وخلال الشهرين الأخيرين، وصلت معدلات التضخم إلى 1.4 في المئة محسوبة على أساس سنوي أي أدنى من الحد المستهدف ومن المتوسط الخاص بالفترة التي تم فيها تطبيق ذلك الهدف في آن معاً. يذكر أن توقعات مقاييس معدل التضخم المبنية على قاعدة السوق لا تتسم بالكمال، ولكن خلال معظم السنوات القليلة الماضية أشارت تلك المقاييس الى انه من المحتمل أن يكون معدل التضخم أقل من المستوى المستهدف بشكل متوسط في السنوات الخمس المقبلة، وسيشكل عدم تحقيق ذلك، صدمة، لأن معظم تصورات مجلس الاحتياط الفدرالي في الآونة الأخيرة تشير أيضاً الى أن معدل التضخم سيكون أدنى من الحد المستهدف خلال المستقبل المنظور.

وبوسع المرء أن يجادل حول ما إذا كان لدى مجلس الاحتياط الفدرالي الهدف الصحيح أم لا، وذلك سؤال علني ومثير للاهتمام تتمحور حوله الكثير من وجهات النظر التي تستحق الدراسة والتأمل. هل تعلمون ما هو الأمر الذي ليس مطروحاً للجدال؟ إنه يتمحور حول ما إذا كان ما تعرضنا له في الولايات المتحدة خلال السنوات القليلة الماضية يمثل سياسة نقدية جيدة. لا. لم يكن الحال على هذا النحو. ثم إن وضع هدف عام لا يحقق على الدوام ذلك الهدف في المستقبل مع توقع هذه الحصيلة واتباع سياسة تفضي الى ذلك، إنما هي سياسة سيئة، وأنا لا أستطيع أن أفهم كيف لم يتمكن مجلس الاحتياط الفدرالي من رؤية هذا السجل الذي يلحق الضرر بالتعافي الاقتصادي ويضعف بشدة صدقية ذلك المجلس.

إن مجلس الاحتياط الفدرالي في حاجة الى تغيير في سلوكه، وفي هدفه، أو الى تغيير في موظفيه.

وقد تمثلت ردة الفعل النموذجية بالنسبة الى مثل هذا النوع من الانتقادات في التأكيد على أن مجلس الاحتياط الفدرالي فعل ما في وسعه، وبالتالي فهو لن يهدف الى عمل المزيد في هذا الشأن. ويرى بعض المراقبين أن السياسة النقدية قامت بالجزء المطلوب منها، بينما يصر البعض الآخر على أن تلك السياسة غير قادرة على عمل المزيد، وقد انضمت مجلة الإيكونوميست إلى العديد من المراقبين الذين يجادلون في أن درجة أكبر من أعباء التحفيز يجب أن تقع على كاهل السلطات المالية.

خفض الميزانيات

وحقيقة الأمر، أن الحكومات تصرفت بحماقة إزاء خفض الميزانيات وعدم الاستفادة من التمويل الرخيص من أجل القيام بالاستثمار في البنية التحتية المطلوبة بصورة ملحة. ولكن ذلك الفشل لا يعفي مجلس الاحتياط الفدرالي من المسؤولية في هذا الصدد. ثم إن القاء المسؤولية المتعلقة بالسياسة المعاكسة، أو تعطيل الملاذ الآمن بتعبير أدق، على عاتق التشريعات سيمثل تغيراً راديكالياً حقيقياً.

ويقول اقتصاديون إن إدارة دورة العمل يجب أن تلقى على كاهل البنك المركزي لأسباب وجيهة، لأن التحفيز المالي سيخفق في غالب الأحيان في تلبية الشروط اللازمة لتحقيق سياسة معاكسة ملائمة، وهي ليست ذات صلة بصورة خاصة في الوقت الراهن (ولكنها ستكون كذلك إذا تمكن الاقتصاد من تجاوز هذه الفوضى)، مع العلم أن الشيء الملائم يتمثل في عدم استطاعة الحكومات توفير طرق تحفيز مالية كافية من أجل تحسين الاقتصاد (على الأقل عندما تكون أخطار النزاعات العالمية غير قادرة على توفير الحوافز الضرورية). ويعتبر سجل الدول الغنية في هذا الصدد ببساطة فاشلاً بصورة تامة خلال السنوات القليلة الماضية، ثم إن التعويل على الحكومات المنتخبة من أجل القيام بعمل أفضل في المستقبل يمثل وصفة نحو ركود أعمق ودورات أعمال أكثر تقلباً. ولا ينسحب هذا على الحالات التي كان التحفيز المالي فيها ناجحاً بصورة خاصة، وعلى سبيل المثال كان الإنفاق المالي في الصين وسيلة للفساد، وكان من الصعب وضع حد لتلك الظاهرة على الرغم من أن عوائد النمو مقارنة بالديون الهامشية بدت متراجعة بصورة سريعة.

وتجدر الإشارة الى أن السياسة النقدية ليست مثل زر تقوم بتشغيله عندما يتعثر الوضع الاقتصادي ثم تقفله عندما تتحسن الأوضاع من جديد. ومادام الاقتصاد يعتمد على المال يتعين وجود سياسة مالية، وهي فضفاضة جداً وضيقة تماماً أو تكاد أن تكون صحيحة. وليس من السهل تحديد أوضاع تلك السياسة، ولكن نقطة البدء المنطقية الى حد كبير تكمن في مقارنة وضع الاقتصاد مع الهدف المعلن والمختار للبنك المركزي. وعلى ذلك الأساس كانت السياسة مشدودة جداً منذ فترة من الزمن، ومن المحتمل أن تظل على هذا النحو في المستقبل. وقد يتمحور معدل التضخم حول نسبة 1.5 في المئة، وليس على 2 في المئة، خلال السنوات القليلة المقبلة.

التيسير الكمي

أنا أفهم أسباب انزعاج العديد من الناس في ما يتعلق بمسألة التيسير الكمي، وسوف يكون من الأكثر راحة وإرضاء لو كان في وسع مجلس الاحتياط الفدرالي تحفيز الاقتصاد عن طريق طباعة أموال من أجل تقديمها الى دور الأيتام، ولكن من المحزن أن القوانين لا تسمح له بالقيام بذلك. ثم إن عمل البنك المركزي ليس توفير كل سبل الراحة لنا. وهكذا، فإن السؤال الذي يتعين طرحه على نقاد التيسير الكمي هو: ماذا يتوجب على مجلس الاحتياط الفدرالي القيام به؟

back to top