مؤتمر فيينا مرة أخرى

نشر في 10-10-2014
آخر تحديث 10-10-2014 | 00:01
لقد أنهت المعاهدات التي أبرِمَت في عام 1648 حرباً دينية دامت قرابة قرن من الزمان من خلال ضمان مبدأ «الرعية على دين حكامهم»، ثم أعاد مؤتمر فيينا ترسيخ مبدأ توازن القوى، استناداً إلى اعتقاد مفاده أن الأطراف كافة تتقاسم مصلحة مشتركة تتجاوز طموحاتها الفردية.
 بروجيكت سنديكيت قبل مئتي عام وبالتحديد في الخامس والعشرين من سبتمبر من عام 1814، رحب إمبراطور النمسا فرانز الأول عند بوابات فيينا بقيصر روسيا ألكسندر الأول وملك بروسيا فريدريش فيلهلم الثالث، وكانت بداية مؤتمر فيينا بشرى بأطول فترة سلام عرفتها أوروبا لقرون من الزمان، لماذا إذاً كانت الذكرى السنوية لهذا الحدث موضع تجاهل؟

صحيح أن مؤتمر فيينا يُعَد في الأغلب توثيقاً لانتصار القوى الرجعية في أوروبا بعد هزيمة نابليون، ولكن رغم هذا، وفي ضوء الارتباك العالمي المتزايد اليوم إن لم يكن الفوضى العالمية، فإن بعض الحنين إلى مؤتمر فيينا قد لا يكون خارج السياق، فنحن هنا إزاء لقاء نجح عبر مفاوضات صعبة، ولكنها ناجحة في إعادة تأسيس النظام الدولي بعد الاضطرابات التي أحدثتها الثورة الفرنسية والحروب النابليونية، ولكن ترى هل يمكننا تطبيق أي من دروس مؤتمر فيينا اليوم؟

للإجابة عن هذا السؤال، ينبغي لنا ألا نتأمل معاهدة فيينا التي أبرمت في عام 1815 فقط، بل أيضاً معاهدة سلام ويستفاليا في عام 1648 ومعاهدة فيرساي في عام 1919، فكل منها وضعت بطريقتها الخاصة حداً لفصل دموي في التاريخ الأوروبي.

لقد أنهت المعاهدات التي أبرِمَت في عام 1648 حرباً دينية دامت قرابة قرن من الزمان من خلال ضمان مبدأ "الرعية على دين حكامهم"، ثم أعاد مؤتمر فيينا ترسيخ مبدأ توازن القوى، استناداً إلى اعتقاد مفاده أن الأطراف كافة تتقاسم مصلحة مشتركة تتجاوز طموحاتها الفردية، كما أعاد تأسيس "تآلف الأمم" الذي نجح على مدى جيلين في منع النزعات الاسترجاعية الإقليمية والأيديولوجية من ذلك النوع الذي شهدته أوروبا من 1789 إلى 1815، وعلى النقيض من هذا، كانت معاهدة فيرساي قاسية إلى الحد الذي جعل احترامها أمراً غير وارد، وضعيفة إلى الحد الذي جعل فرضها قسراً في حكم المستحيل، الأمر الذي مهد الطريق لاندلاع الحرب العالمية الثانية.

وبين المعاهدات الثلاث، تقدم تلك التي أنتجها مؤتمر فيينا صورة منعكسة تساعدنا في فهم خصوصية ظروفنا الحالية، ففي فيينا، كانت القوى الأوروبية بين بعضها، وقد تعزز شعورها بالانتماء إلى أسرة عظيمة وموحدة بفضل الأصول الأرستقراطية لدبلوماسييها، ولم تكن مسألة "الآخر" الثقافي قضية على أي حال.

لا شك أن الطموح اليوم ليس إعادة خلق ذلك العالم (أو إعادة تأسيس نظام ويستفاليا للفصل الديني الذي ينطوي على مفارقة تاريخية بكل تأكيد)، بل ابتكار نظام جديد يقوم على افتراضات مختلفة، والواقع أن أحد مفاتيح الفوضى العالمية الحالية هو أن الفاعلين الرئيسيين في النظام الدولي، على النقيض من مؤتمر فيينا- أو الأطراف المشاركة في 1648- لا توحدهم إرادة مشتركة للدفاع عن الوضع الراهن.

تندرج القوى الفاعلة الرئيسية تحت ثلاث فئات: فئة الرجعيين الصريحين مثل روسيا وتنظيم الدولة الإسلامية؛ وهؤلاء الذين هم على استعداد للقتال لحماية الحد الأدنى من النظام مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا العظمى؛ والدول المترددة- بما في ذلك بعض القوى الفاعلة الإقليمية الرئيسية في الشرق الأوسط مثل تركيا وإيران- والتي تتناقض أفعالها مع أقوالها.

وفي مثل هذا السياق المقسم، فإن تحالف "المعتدلين" الذي أنشأه الرئيس الأميركي باراك أوباما لإلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية- المجموعة التي تضم المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة- ضعيف في أفضل تقدير، وربما يكون التحالف المتعدد الثقافات شرطاً أساسياً لأي عمل عسكري مشروع في الشرق الأوسط؛ والمعضلة هي أنه ما لم يتسع تحالف أوباما الإقليمي بشكل كبير فإن حماس حلفائه الحالي للتدخل العسكري الأميركي من المرجح أن يتلاشى بسرعة.

أو ربما يعاد تشكيل شيء أشبه بالهيمنة الثنائية القطبية (بريطانيا العظمى وروسيا بعد عام 1815، ولو أن قوى فاعلة أخرى مثل النمسا وبروسيا وفرنسا كانت مهمة)، حيث تحل الولايات المتحدة والصين محل بريطانيا العظمى وروسيا، ويبدو أن هذا هو حلم هنري كيسنجر المطلق؛ الحلم الذي يستطيع المرء أن يلمحه في كتابه الأخير الذي أسماه على الطريقة الألمانية "النظام العالمي: تأملات في شخصية الأمم ومسار التاريخ".

ولكن هل يمكننا أن نعتمد حقاً على تحقق هذا الحلم؟ في وقت نواجه النزعة التوسعية الروسية وتطرف سفاكين يدَّعون أنهم المخلصون، فإن الدروس المستفادة من مؤتمر فيينا قد تبدو بعيدة وغير ذات صلة، بيد أن أحد هذه الدروس واضح: فالدول لديها مصالح مشتركة ينبغي لها أن تفوق الأولويات الوطنية أهمية.

لا شك أن الصين والهند والبرازيل لها مصالح في النظام العالمي، أي أن هذه البلدان تحتاج إلى الحد الأدنى من النظام، ولكن هذا يعني ضمناً أيضاً أنها لا بد أن تساهم في الحفاظ على هذا الحد الأدنى، فمصالح الصين على سبيل المثال لن تتحقق على النحو الأفضل بتأليب روسيا على الولايات المتحدة، بل من خلال اختيار حزب النظام بدلاً من حزب الفوضى.

الحق أن اجتماع المعادل العصري لشخصيات مثل مترنيخ، وكاسلرا، وألكسندر الأول، وتاليران هو أيضاً حلم آخر بعيد المنال: فلا يوجد أشخاص كهؤلاء الآن، ولكن في مواجهة الفوضى المتنامية والعنف المتصاعد اليوم، يحسن الزعماء الحاليون صنعاً باستخلاص بعض الإلهام من أسلافهم، الذين فتحوا قبل مئتي عام الطريق إلى ما يقرب من قرن كامل من السلام.

* دومينيك مويزي | Dominique Moisi ، أستاذ في معهد الدراسات السياسية في باريس، وكبير مستشاري المعهد الفرنسي للشؤون الدولية، وهو أستاذ زائر لدى كينجز كوليدج في لندن حاليا.

"بروجيكت سنديكيت" بالاتفاق مع "الجريدة"

back to top