Of Human Bondage 2
أدرك (سومرست موم)، وهو بصدد كتابة سيرته الروائية (Of Human Bondage) أنه إزاء عمل لا يستدعي عبقرية في الكتابة ولا بلاغة في التعبير ولا فصاحة في اللغة، قدر احتياجه إلى التعبير عن اعتيادية الإنسان وهو يخوض غمار الحياة، ويتحسس طينته الإنسانية وهي تتشكل في أتون المعاناة أو فضاءات المباهج القليلة المتناثرة. كانت كتابة أشبه بالإنصات إلى الرسائل الخفيّة والمعلنة التي تهبها الحياة لكائناتها البشرية لتشكل في النهاية تلك اللوحة الفنية المتداخلة الخطوط، والمليئة بالدهاليز والتقاطعات، والمنتهية بعد اكتمالها للاضمحلال في بحر الوجود اللانهائي.يبدأ (موم) بطفولته المموهة باليتم بعد فقد والديه وانتقاله للعيش عند عمه الذي كان قساً وواعظاً كنسياً. ورغم الحنان المتحفظ لدى زوجة عمه، فإن تربيته البيتية لم تخلُ من صرامة ومحافظة وتوجيه قسري نحو التدين، الأمر الذي كرهه وتمرّد عليه لاحقاً في يفاعته الباكرة. لاحقاً استطاع أن يجرّب الخروج عن بيئة الريف الإنكليزي الباهتة الباردة ويرتحل إلى ألمانيا وباريس في مطلع شبابه طلباً للعلم والخبرة والمغامرة في ظل ما أتاحته له موارده المالية الشحيحة في ظل وصاية العم. اختار دراسة الطب بعد تمرّد وتردّد على مهن مؤقتة لم ترضِ رغبته في الاستقلال وكسب العيش.
بيد أن هذا السرد للخطوط العامة لحياة (موم) قد لا تحمل شيئاً من معنى أو مغزى، لولا أن الكاتب أحسن الغوص فيما وراء السرد الداني. فهناك وقفات مؤثرة حول (فيليب كيري) البديل الروائي، ومرارات فقد الأم وآلام الوحدة ومكابدات عاهة العرج الخلْقي وما جرّته إليه من خجل وشعور دائم بالمهانة والنقص (*). وهناك تأملات في حياة مدرسية صارمة وقاسية، وفي حظه القليل في الصحبة دون سخرية أو انتقاص وحظ أقل في الدفء الإنساني والرعاية البيتية. وحين يرتحل (فيليب) رحلاته القصيرة فيما بعد، يظل حاملاً فوق ظهره مؤونة تلك المكابدات من خجل وعزلة نفسية وارتهان إلى قيود الضعف والحاجة.ويبقى أن الأكثر بروزاً في الكتاب وقفاته الطويلة حول مكابدات الحب العاثر المريض، الأشبه بسلسلة لا تنتهي من العذاب الماسوشي، الذي ما إن يأذن بالأفول حتى يعود كحمّى مرضية لا براء منها. وفي هذا اللون من العاطفة المريضة غير المتكافئة غالباً ما تحتدم المتناقضات ويسود اللامنطق، وتتعاور المحب تقلبات ممضة بين الحب والكره والإقبال والإدبار. فـ(فيليب) الشاب الذي يمثل الطبقة المتوسطة المتطلعة للتسلح بالثقافة والعلم ، يدفعه الحرمان العاطفي إلى التعلق بـ(ميلدرد) التي تعمل نادلة في أحد المطاعم، والتي تمثل كل ما تمثله طبقة القاع الاجتماعية من رثاثة في الخُلُق والسلوك وجهل في لياقات التعامل وانحراف في أصول التقدير العاطفي. أضف إلى ذلك خلوها من الجاذب الأنثوي بصدرها المسطح وبشرتها الشاحبة المريضة ولسانها السليط وميولها الغريبة في القفز من علاقة إلى أخرى. بينما يقف (فيليب) على الشاطئ الآخر يفيض عاطفة وانتظاراً لتقبل عليه (ميلدرد) إقبالاً متمنعاً كلما أرغمتها الحاجة إلى المال أو إلى الخروج من مأزق ما من مآزق حياتها المضطربة. أثناء تلك الاسترجاعات الطويلة المتأملة لطفولة يتيمة بلا مباهج، وتربية دينية وتعليمية صارمة، وشباب مفعم بالتساؤلات وحب المغامرة، وروح تواقة للتجريب والانعتاق من قيد العاهة والحاجة، وعقل متسائل حول معاني الحب والفن والصداقة، يجد الكاتب نفسه إزاء جدل لا ينتهي بين الجدوى واللاجدوى، وما إذا كانت مسيرة الحياة مقدّرة ومرسومة أم أنها خالية من القصد والمعنى.وفي موقف ما، وهو إزاء تأمله في موت مفاجئ لصديق لم تمهله حياته القصيرة فرصة للأماني، تذكر فجأة السجادة الفارسية الصغيرة التي أهداه إياها شاعر بائس ذات رحلة إلى باريس، قائلاً له إنها بنقوشها المنمنمة ستعطيه ذات يوم تفسيراً لمعنى الحياة. وفجأة برقت في ذهنه الملبّد بالحزن الإجابة على السؤال الملغز، حين رأى بأن كدح الإنسان أشبه بالحلقة المفرغة التي لا تعني أحداً في هذا الوجود سواه هو. فوجود الإنسان في هذه الحياة حين ميلاده أو اضمحلاله حين موته لن يغيرا شيئاً في مسيرة الكون. ولا يبقى من قيمة لحياة الفرد سوى كونها كالسجادة الفارسية تمّت حياكتها لإرضاء حاسة الفن والشغف، وما يوفرانه من متعة للحائك/ الإنسان كونه يشتغل على تصميمه الفني الخاص الذي يحيكه بإرادته أو بغيرها. وسواء كانت قطعته الفنية عادية القيمة أو عالية الجودة، فإنها في كلا الحالتين ليست سوى وهم! إذ سينتهي الجميع إلى الذوبان في اللامعنى. وهنا يستحضر حكاية فلسفية حول ملك أرهق العلماء والحكماء في تأليف كتاب حول تاريخ الإنسان، وبعد عشرين عاماً من التأليف جاءه هؤلاء بخمسين مجلداً ضخماً. ولأنه لم يعد يمتلك الوقت لقراءة كل ذلك بسبب تقدم سنه، طلب ملخصاً لتاريخ الإنسان في جملة واحدة. فكانت الجملة هي :"وُلد وعانى ومات".(*) عاهة سومرست موم كانت التأتأة في الكلام، وفي سيرته جعل بديله الروائي (فيليب) يعاني من العرج بدل التأتأة كلون من التمويه والاستبدال.