تقشف غير مسبوق منذ سقوط صدام يكشف فوضى المال في بغداد
آخر موازنة مالية لصدام حسين كانت مجرد 4 مليارات دولار، وهو مبلغ يناسب دولة فقر مدقع محاصرة دولياً كالتي كان عليها العراق عام 2003.لكن أول موازنة مالية بعد صدام تجاوزت 45 ملياراً، حيث رفعت العقوبات، وزادت أسعار النفط، وأضيفت إلى ذلك منح دولية تجاوزت في تلك السنة 10 مليارات دولار لإعمار العراق.
أما آخر سنة من عهد نوري المالكي فبلغت موازنتها نحو 130 ملياراً، وعكست فارق القدرة الشرائية ومعدلات النمو الذي حصل خلال 10 سنوات.ورغم تهالك البنى التحتية، وفشل برامج التنمية ومستويات العنف، فإن العراقيين حصلوا على مرتبات من الوظائف الحكومية وضعتهم في مرتبة الأعلى دخلاً مقارنة بدول المنطقة، باستثناء البلدان الخليجية. أما الرابح الأكبر من الارتفاع الكبير في أسعار النفط ومعدلات تصديره فكان الطبقة السياسية، وكبار الموظفين، الذين حصلوا على رفاهية ومخصصات مالية غير مسبوقة في تاريخ العراق الحديث، حسب وصف كثير من المراقبين. وظلت الأمور تسير على ما يرام رغم نقمة شعبية على مستوى بذخ المسؤولين الكبار، وهم طبقة متضخمة تقدر بنحو 10 آلاف شخص، يمثلون 18 برلماناً محلياً وإقليمياً، فضلاً عن جهاز بيروقراطي متضخم في نحو 40 وزارة اتحادية، و30 مؤسسة وهيئة عليا مستقلة دستورياً، و6 أجهزة استخبارات وقيادات عسكرية رصدت لها إمكانات مهولة، رغم كل الإخفاقات والانهيارات. لكن يبدو أن أول سنة من حكومة حيدر العبادي من شأنها إعادة العراق إلى مشاكله البدائية، وعهد الموازنات المالية الشحيحة، نظراً لأن بغداد تبدو الأكثر تأثراً بانهيار أسعار النفط، حتى ان العبادي ناشد البرلمان عدم إعادة الموازنة، التي كتبتها الحكومة، إلى مجلس الوزراء، وقام بمنح النواب حق «التصرف كما يشاؤون»، لأن المبلغ المتبقي من عوائد النفط يصبح شحيحاً أكثر فأكثر.وبعد أن توقعت الحكومة قبل شهر أنها ستحصل على ما لا يقل عن 70 مليار دولار، رغم انخفاض أسعار البترول، أصبح من الواضح اليوم أنها قد تواجه صعوبة حتى في تأمين 50 ملياراً، أو أقل، مع افتقادها بدائل لسد العجز الذي بلغ نحو نصف الموازنة.ولا تقتصر المخاوف من تداعيات هذه الأزمة على العجز عن دفع التنمية، أو توفير أجور نحو 6 ملايين موظف حكومي، بل إنها تبدو كجزء من تحديات وجودية تمس الجيش وقوى الأمن وموازين الحرب مع «داعش»، بل إن الأمر يمس تعاقدات مع عمالقة البترول السبعة الذين تباهت بغداد كثيراً بقدومهم إلى العراق على دفعات، لأول مرة منذ أن طردتهم الجمهورية الأولى بدءاً من 1958، ما كان بداية الأزمة الدولية بين بغداد والعالم.فمهما حاولت وزارة النفط إخفاء الأزمة، فإن البرلمان اعترف أن العراق تخلف كثيراً عن دفع نحو 27 مليار دولار، كأجور للشركات العالمية التي ساعدته في رفع الإنتاج بنحو مليون ونصف المليون يومياً، ما دفع العديد من النواب إلى مناشدة الحكومة التفاوض مع عمالقة البترول لإرجاء دفع هذا المبلغ، الذي يعني، على الأقل، تلكؤاً في خطط الشركات لرفع الإنتاج العراقي إلى مستويات طموحة تقدر بطاقة تصديرية تصل إلى 6 ملايين برميل يومياً بحلول 2017، فضلاً عن احتمال نشوب أزمة مديونية بين عمالقة البترول وبغداد تخرب صفو العلاقة الممتدة منذ عقد.أما صلة الأمر بالجيش فاتضح من رقم أولي تحدث عنه النواب، فبينما تطمح المؤسسة العسكرية إلى ضم نحو 70 ألف عراقي في صفوفها للعام الحالي، نجد البرلمان يخفض نفقات التعيين الجديد، ويناشد العسكر تخفيض توقعاتهم بشكل كبير، والاكتفاء بنحو 10 آلاف وظيفة جديدة في صفوف القوات المقاتلة، وهو تقليص للتجنيد يوازي تراجعاً آخر في عقود التسليح المكلفة، والتي ستتحول كما يبدو إلى ديون لأميركا بشكل خاص، في وقت تتصاعد الحرب وكلفتها الرهيبة مع تنظيم «داعش».