يبدو أن المفاوضات "الحمساوية"- "الفتحاوية"، التي جرت في القاهرة الأسبوع الماضي، تكللت بالنجاح بحسب ما رشح من أنباء، ويبدو أن قطاع غزة سيعود إلى "السلطة الوطنية" قريباً، عبر حكومة "الوفاق الوطني".

Ad

يعني هذا ببساطة أن "حماس" في طريقها لتقاسم السلطة مع "فتح"، في قطاع غزة، بعد ثماني سنوات من انفرادها بها بقوة السلاح.

نشرت صحيفة "الوطن" المصرية حواراً مع نائب رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" موسى أبو مزروق، أول أمس الجمعة، على هامش مشاركته في وفد الحركة المفاوض؛ وهو الحوار الذي قال فيه هذا القيادي البارز إن "الحركة تجري عملية تقييم ومراجعة لمواقفها خلال الحرب الأخيرة على غزة".

قال أبو مرزوق أيضاً إن "مصر لم تتخل عن دورها تجاه فلسطين أبداً"، وحين سئل عن المكاسب التي تحققت اعتبر أن "تماسك الجبهة الداخلية، والتمسك بالمقاومة، وإحباط مخططات العدو" أهم وأبرز ما جرى في تلك الحرب. وحين سئل أبو مرزوق عن إمكانية تجنيب "حماس" أهالي غزة الدمار والقتل عبر الموافقة على المبادرة المصرية التي طُرحت في اليوم السابع من عمر الحرب، قال إن الموافقة على تلك المبادرة كانت ستعني انتصار "العدو الصهيوني".

لم يقل أبو مرزوق الحقيقة هنا؛ إذ لا تختلف المبادرة التي قبلتها "حماس" عن تلك التي رفضتها في البداية في شيء جوهري، والأهم من ذلك أن "حماس" تقبل الآن تقاسم السلطة على القطاع مع "فتح" وهو ما لم يكن مطروحاً بالشكل نفسه قبل العدوان الإسرائيلي الأخير.

"حماس" قبلت المبادرة المصرية لأنها لم تجد سبيلاً ناجعاً غيرها، وهي ستتقاسم السلطة في القطاع، لأنها تدرك وجوب دفع ثمن إدارتها السيئة وخياراتها الخاطئة. ثمة واقعة شخصية حدثت لي قبل 35 سنة يمكن أن تكون موحية في هذا الصدد: كنت في العاشرة من عمري، عندما طلب إلينا ناظر مدرستنا الابتدائية، الواقعة في أحد أحياء شرق القاهرة، أن نخرج في "مسيرة" للهتاف لـ"بطل الحرب والسلام" الرئيس السادات، والتعبير عن تأييدنا وبهجتنا لتوقيع "إتفاقية السلام المصرية- الإسرائيلية"، التي قيل وقتها إنها لن تعيد أراضينا المحتلة في سيناء فقط، لكنها أيضاً ستدخلنا عصر الرخاء، وستيسر استرداد كل الأراضي العربية المحتلة.

ورغم أنني كنت مجرد تلميذ بالصف الرابع آنذاك، فإنني كنت أعرف جيداً أن عماً لي وابن عمة قد "اُستشهدا" في حربين مع إسرائيل، وأن شقيقاً لهذا الأخير قد أُسر وعُذب في حرب أكتوبر 1973. وككثير من زملائي وأقراني، فقد كانت أمنيتي أن أكون ضابطاً بالجيش، وأن تتاح لي الفرص لقتال تلك الدولة العدوانية "التي أدمت أسرتي وأذلت وطني".

على أي حال فقد رفضت حمل صورة تضم الرئيسين كارتر والسادات والسير بها مع زملائي في الشوارع المحيطة بالمدرسة هاتفين فرحاً بـ"السلام"، متعللاً بأسباب كثيرة ليس منها ما يشير إلى "موقفي السياسي"، لكن مدرس الحساب الأستاذ إسماعيل تكفل بتعديل توجهاتي بضربي بالعصا أربع مرات مؤلمة، وافقت على إثرها على الانضمام لـ"المسيرة".

لم يكن من الصعب أن نقنع الناظر وزمرة المدرسين المجبرين على تنفيذ الأوامر بأننا سنؤدي الدور جيداً، فقد حرصنا على الانتظام والتراص والهتاف حتى غبنا عن أعينهم جميعاً، وعند أول منحنى في الطريق ألقينا جميعاً بما نحمله من صور وزعت علينا، وراح كل منا إلى مقصده.

في يوم 15 سبتمبر 2014، أصدرت "حماس" بياناً نفت فيه علمها بإطلاق قذيفة "هاون"، في اليوم نفسه، على "مجمع أشكول" الإسرائيلي المتاخم لـقطاع غزة، وأكدت تمسك فصائل المقاومة بالهدنة السارية منذ نهاية أغسطس الماضي.

وقالت الحركة، عقب إعلان الجيش الإسرائيلي سقوط القذيفة، إن "فصائل المقاومة لا تزال ملتزمة بالهدنة التي تمت برعاية مصرية ودخلت حيز التنفيذ يوم 26 أغسطس 2014".

لقد اشتعل العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة في أعقاب اتهام إسرائيل لـ"حماس" أو جماعات مقربة منها، بخطف ثلاثة مراهقين إسرائيليين وقتلهم بالضفة الغربية؛ وهو الأمر الذي تبعه قيام الدولة العبرية بعمليات قصف واعتقال بصفوف الفلسطينيين، في مقابل قيام "حماس" بقصف مدن إسرائيلية ومناطق حيوية بالصواريخ، من دون إحداث أضرار كبيرة بالطبع.

على أي حال، فقد تعرضت إسرائيل للوم وانتقادات حادة على المستوى الدولي من جراء استخدام قوة مفرطة ضد شعب غزة، حيث اعتبر العديد من الأطراف أن ما قامت به خلال هذا العدوان بمنزلة "جريمة حرب متكاملة الأركان".

وكانت نتيجة هذا العدوان "استشهاد" نحو 2150 فلسطينياً، وجرح أكثر من 11 ألفاً، وتدمير أكثر من سبعة آلاف مبنى في غزة، في مقابل مقتل عشرات من الجانب الإسرائيلي، أغلبهم من الجنود.

ليست تلك هي المرة الأولى التي تُمنى فيها غزة بمثل تلك الخسائر بالطبع، لكن الإشكال يكمن ببساطة في أن "حماس" التي رفضت المبادرة المصرية المطروحة في الأسبوع الأول من عمر العدوان الأخير، الذي استمر 50 يوماً، عادت وقبلتها بعدما تفاقم عدد "الشهداء" وتزايد حجم الخسائر، ورغم أنها خرقت أكثر من هدنة سابقة خلال هذا العدوان بإطلاق الصواريخ من جانبها على إسرائيل، فإنها في تلك المرة سارعت بنفي الخرق، وحافظت على تثبيت الهدنة، لحين الوصول إلى مرحلة تفاوض، حُدد لها الثلث الأخير من شهر سبتمبر 2014، برعاية مصرية، قبل أن يتم التأجيل لنهاية أكتوبر، وتوافق "حماس" أيضاً.

لا يبدو أن "حماس" كانت تنوي "قبول المبادرة المصرية" و"تثبيت الهدنة"، لكنها مثلي تماماً قررت أن تفعل ذلك عندما أوجعتها "العصي"، والأهم من ذلك، أن إسرائيل من جانبها لن تؤمن أبداً بالسلام أو تحترمه، طالما أنها تعرف ما الذي يدفع "حماس" إلى قبول مبادرة أو تثبيت هدنة أو إجراء مصالحة.

* كاتب مصري