شرف
شيء جميل أن ترتفع أسهم "أليف شافاق" الروائية التركية في سماء الأدب العالمي، ذلك أننا في أمسّ الحاجة – ونحن نقرأها- إلى توسيع أفق الرؤية نحو زوايا إبداعية أخرى، زوايا أبعد من عالمنا العربي المألوف، وأبعد كذلك من المنتج الغربي الذي لم يكن بمنأى عن التأثير في منتجنا الأدبي والنقدي طوال قرن أو يزيد، وحين يدخل التأثير التركي أو ما شابهه من آثار مشرقية في محيط اهتمامنا الثقافي، فإنه بلا شك يجعل المشهد أكثر ثراءً وتواشجاً مع ذائقتنا وقضايانا الإنسانية. وأليف شافاق، رغم تلقيها العلم في جامعات غربية وإقامتها في أميركا ثم في بريطانيا معظم سنوات حياتها، فإنها في إنتاجها الروائي ظلت منحازة إلى روح المجتمعات الشرقية وتاريخها وإرثها الثقافي المتخم بالتقاليد والموروثات والأعراف، الأمر الذي شكل النسيج الحيّ والنابض في جل نتاجها الروائي مثل "قواعد العشق الأربعون" و"لقيطة إسطنبول" و"شرف". ولعل إقبال الكاتبة على الإرث المعرفي الشرقي والصوفي والغوص في غموضه وثرائه، هيأ لها أرضية صالحة للامتياح من زخمه ومن ثمة إعادة إحيائه وتشكيله بتلك المخيّلة المتوقّدة، غير غافلة عن إسقاط روح هذا التراث على قضايا الحاضر ومدّ الجسور بينه وبين قضايا ومشاكل إنسان العصر.
ولعل هذا ما يفسّر إقبال القارئ الغربي على نتاج روائي يشمّ من ورائه رائحة الأسطورة والغموض والروحانية الصوفية، وهي أمور باتت جاذبة للذوق العام في ظل تصاعد وتيرة العنف والإرهاب والتطرف والصدامات الدامية، فالرسائل المبثوثة غالباً ما تنتصر للمحبة أو البحث عن الأمن الروحي والتواؤم النفسي كما في "قواعد العشق الأربعون" التي أحيت سيرة المتصوفَين شمس التبريزي وجلال الدين الرومي. أو من جانب آخر تلقي الضوء على معاناة الأقليات العرقية التي تم تهميشها واضطهادها إبان الصراعات والحروب، كالأقلية الأرمنية في رواية "لقيطة إسطنبول" أو الأقلية الكردية في رواية "شرف" التي نحن بصددها. وهي قضايا لا تزال تختزن كماً من الأسرار التاريخية والملفات الشائكة، الأمر الذي يتطلب الكثير من الجرأة للتفتيش في ما اختزنته من خفايا ومآسٍ إنسانية. لم تكن جريمة الشرف التي ارتكبها الابن المراهق في حق أمه في رواية "شرف" هي الركيزة الوحيدة في معمارية الرواية، وإنما استطاعت هذه الرواية توسيع منظورها الإنساني نحو إشكالات أخرى كانت تطحن أسرة "طبرق" الكردية التي هاجرت إلى لندن، ولكنها لم تهجر عقلية القرية الكردية البسيطة فيما يتعلق بمفاهيم الشرف والعيب والمحظورات، وإن بشكل متناقض وانتقائي! فالابن المراهق الذي كان يعاشر فتاته الإنكليزية والتي حملت بابنه غير الشرعي، والأب الذي كان قد تخلى عن الأسرة في لندن ليعيش مع راقصة الملهى الليلي "روكسانا"، نجدهما يتواطآن بشكل ما للتربص بالأم التي رانت على علاقتها البراءة والتعفف، بعد أن يئست من عودة زوجها وطلبت الطلاق، فقد رأى كل منهما في الأم والزوجة بؤرة العار ولم يريا أي عار في علاقتيهما اللتين يمكن تمريرهما تحت كم من التبريرات ذات البعد الذكوري المحض. بيد أن البناء الروائي لا يقف عند هذه الحيثية حول تناقض العقلية الذكورية الشرقية في ما يتعلق بمفاهيم العار والعيب، وإنما كانت هناك محن أخرى عادة ما تواجه المهاجرين الشرقيين للغرب، مثل الاغتراب اللغوي والعنصرية والفقر والعيش على هامش مجتمع مترفع يناصبهم البغضاء والتمييز بسبب اللون والجنس. ويبدو أن جماع هذه التحديات هو ما أوقد في نفس الصبي المراهق (إسكندر) أو (أليكس) - كما تقتضي أعراف البيئة الإنكليزية– النقمة والعدوانية، وهيّأه إما للتطرف والانضواء تحت جناح جماعة إرهابية، أو تفريغ غضبه العارم في جريمة الشرف التي كانت ضحيتها الأم الأقرب إلى البراءة والتعفف منها إلى الإثم! وقد أحسنت الكاتبة مزج حاضر أسرة "طبرق" بماضيها، حيث القرية الكردية التي تعيش على حافة الريف التركي، محاولةً المواءمة بين كرديتها الأصيلة وتركيتها المفروضة سياسياً واجتماعياً. ومن هناك تبدأ خيوط الرواية في نسج جذور الأسرة وذكرياتها المثقلة بشظف العيش ووطأة الأعراف والوجوه الغاربة للآباء والأمهات الذين غالبوا حياة ممزوجة بالشقاء وقلة الحظ وبقليل من الأفراح العابرة. في تلك القرية الواقعة على مشارف نهر الفرات أتت إلى الحياة بنتان توأمان لتكملا عقد أخواتهما الثماني، ولتبدأ أقدارهما في رسم أقل المصادفات توقعاً، حين تُقتَل إحداهما بدل الأخرى!