جربت، شخصياً، طوال الشهر الماضي أن أنفصل عن بعض «شبكات التواصل الاجتماعي» حتى أعرف على اليقين مقدار الحصة الزمنية التي تستولي عليها من سائر يومي، فمسحت «تويتر» و«انستغرام» من هاتفي النقال، فتمكنت خلال تلك المدة من قراءة خمسة كتب ثقافية وأدبية متنوعة من الحجم المعتبر، مع إنجاز الكثير من الأعمال الكتابية والإدارية التي كانت معلقة في جدول أعمالي.

Ad

يقول بليز باسكال، الفيزيائي والرياضي والكاتب والفيلسوف الفرنسي: "تنشأ كل مشاكل الإنسان من عدم قدرته على الجلوس وحده في غرفة هادئة لفترة كافية من الزمن". يقول هذا الكلام وهو مَن عاش في الفترة ما بين 1623 و1662، أي في زمن لم يكن فيه شيء اسمه تويتر أو واتس أب أو شبكة إنترنت أو هاتف نقال ذكي أو غبي، ولا حتى هاتف أرضي، ما ترى كان سيقول باسكال لو شاهد حالتنا اليوم، ونحن لا نكف بين ثانية وأخرى عن النظر إلى "شاغل" من هذه "الشواغل"؟!

بليز باسكال، والذي هو بالمناسبة مخترع الآلة الحاسبة، مات عن عمر لم يتجاوز التاسعة والثلاثين، لكنه مع ذلك خلّف وراءه إرثاً علمياً فكرياً فائقاً، جعل البشرية تحتفي به أيَّما احتفاء، حيث أطلق اسمه على الوحدة الدولية لقياس الضغط، وعلى إحدى لغات البرمجة الحاسوبية (لغة باسكال)، وعلى إحدى القواعد الرياضية لحركة السوائل (قانون باسكال)، وغيرها، ليصبح خالداً عبر التاريخ.

تسعة وثلاثون عاماً فقط كانت كافية لهذا الرجل المتعدد المواهب والاهتمامات، كي يصبح اسمه ملء السمع والبصر، وكل ذلك لأنه أدرك أهمية "العزلة" والاعتكاف في خلوة التفكير والتأمل والقراءة والبحث والحديث مع النفس!

يقول ستيف تشاندلر، وهو أحد المحاضرين والكتاب الأميركيين ذائعي الصيت، بأنه كثيراً ما يُسأل في محاضراته: "لماذا لا تأتينا أفضل أفكارنا إلا ونحن نستحم؟"، فيجيب من يسألونه بسؤال مقابل: "ومتى يكون الواحد منكم في أي وقت آخر طوال يومه بلا شواغل أو مقاطعات إلا وهو يستحم؟". تأتي لكثير من الناس أجمل الأفكار وأصفاها عندما يستحمون، لأنه صار الوقت الوحيد الذي يقضونه مع أنفسهم بلا مقاطعات من أي نوع، فيتفكرون ويتأملون، ولا يسمعون إلا أفكارهم تحت هدير الماء. يقول أفلاطون، المعلم والأديب والرياضي والفيلسوف اليوناني الشهير، والذي يعني اسمه بالمناسبة "واسع الأفق": "وما التفكير إلا حديث الذات مع الذات".

جربت، شخصياً، طوال الشهر الماضي أن أنفصل عن بعض من "شبكات التواصل الاجتماعي" حتى أعرف على اليقين مقدار الحصة الزمنية التي تستولي عليها من سائر يومي، فقمت بمسح برنامجي تويتر وانستغرام من هاتفي النقال. تمكنت خلال تلك المدة من التركيز على القراءة الحرة والكتابة فانتهيت من قراءة خمسة كتب ثقافية وأدبية متنوعة من الحجم المعتبر، وانتهيت كذلك من إنجاز الكثير من الأعمال الكتابية والإدارية التي كانت معلقة في جدول أعمالي، بحجة كثرة المشاغل. لقد ثبت لي بما لا يقبل الشك أن وجود برامج هذه الشبكات في أجهزتنا النقالة، وكونها متاحة معنا طوال الوقت، قد جعلنا لا نستطيع التركيز بشكل عميق على سائر أعمالنا الأخرى، حيث صرنا كالملتصقين بهذه العوالم الافتراضية على حساب وجودنا الفعلي والمؤثر في عوالمنا الحقيقية، بل، وهو الأهم، على حساب وجودنا مع أنفسنا حتى في تلك اللحظات التي نكون فيها وحدنا جسدياً.

يقول باولو كويللو، الروائي والقاص البرازيلي الشهير، على لسان اليوناني الغريب في واحدة من رواياته الأخيرة، (مخطوطة وجدت في عكرا): "بلا عزلة، لا يستطيع ولد أن يتعلم ما في الحياة، ولا يقدر فنان أن يكون خلاقاً، ولا ينمو عمل ويتطوّر. ليست العزلة غياباً للحب، بل مكملة له. ليست العزلة غياباً للرفقة، بل هي اللحظة التي تتحرر فيها روحنا لتحدثنا، وتساعدنا على اتخاذ قرار في شأن حياتنا".

طوبى لمن لا يخشون العزلة، لمن لا يخشون أن تكون أنفسهم رفيقهم، لمن لا يبحثون بيأس، على الدوام، عن فعل شيء، شيء يستمتعون به، شيء يحكمون عليه. ما لم تنفردوا بأنفسكم يوماً، فلن تعرفوها، وإذا لم تعرفوا أنفسكم، فستبدؤون بخشية الفراغ. الفراغ لا وجود له. ثمة عالم شاسع يستتر في روحنا، ينتظر لحظة اكتشافه. هو هناك بقوته التي لا تشوبها شائبة، بل هو قدير وجديد لدرجة أننا نخشى الاعتراف بوجوده... من المهم لأولئك الذين تكدّرهم العزلة، أن يتذكروا أننا في أعظم أوقات حياتنا أهمية، نحن دائماً وحدنا...

كما الفنان في عمله، فمن أجل أن يكون عمله جيداً فعلاً، يحتاج إلى السكون والإنصات... وكمثلنا جميعاً، عندما نجد أنفسنا وجهاً لوجه نحن والضيف الثقيل، الموت، سنكون جميعاً وحيدين في اللحظة الأهم والأكثر مهابة من وجودنا، وكما أن الحب هو شرط إلهي، العزلة هي أيضاً شرط بشري، وبالنسبة إلى أولئك الذين يفهمون معجزة الحياة، هاتان الحالتان متعايشتان بسلام.