في نصّ «اختبار الحاسّة» يُطلق غسّان الخنيزي بوحهُ، انطلاقاً من الجمال الذي يسكن أقاصي الأماكن التي تزور، لا التي تُزار: «الجمال/ يودَع في القصيّ من الأماكن التي زارتنا...» ويحضر الاحتفال بالجسد المجنّح المرتفع عن الأرض: « كما لو أنّ الجسد يطير قليلاً/ ...والعلوّ القليل عن الأرض كثير عليه»... ويهرب الخنيزي من الأوصاف أمام حرَمِ الجسد، ويرفض أن يصادر البكاءُ المساحة المخصّصة لمديح الأجساد، ولو أنَّ الوجع ممتلئ من ذاته، لأنَّ الحواسّ يجب أن تمرَّ بالاختبار: «الأوصاف، لم يُهمَس بها/ ولا كان النواح بديلاً عن التّغزُّل في الجسد/ يوم كان الوجعُ طريّاً وصادماً: الوقتُ واقفٌ/ والحاسّةُ تُختبر».

Ad

ويتخطّى الجسد دلالاته التقليديّة، فتغدو للعاطفة ماء يفيض بين الأجساد، حين لا يبقى من علاج يذهب بالألم سوى ما تقطره اللذة من سحبها الخضر: «والأبدان، ماء عطوف يسري بينها، لحظة كانت اللذّة بلسماً ضدَّ الألم». وللألم عند الشاعر أرض وفضاء، جغرافية خاصّة، وحين تغزو الزرقةُ الحنايا تشدّ جاذبية فضاء الألم أنين الحنايا صعوداً إلى حيث للتأوّه أبراج: « والحنايا تزرقُّ، يتعالى أنينها/ وفي العالي من التأوّه/ تتذكر صباها، ومرحها».

المغني الكفيف

وفي نص «شادية»، عبثاً يشدُّ الخنيزي على يد ذاكرته المتألمة لتعطيه صُوَر عرسِ أبيه وأمّه. وحتّى المغنّي الكفيف لم يجد له أثراً: «ولم أسمع عن المغنّي الكفيف الذي غنّى لأمّي لحظة زفافِها». ومن الواضح أنّ الأمومة حاضرةٌ في النّص العاشق، فكأنَّ الشاعر لا يرضى المضيّ إلى امرأة قبلَ أن يحيّي امرأة أخرى، هي الأولى، وهي الأكثر عمقاً بين النساء: «... ثمَّ أدركْتُ أنَّ قلبَ أمّي صندوق عميق الغور». غير أن «شادية»، ليس فيها إلاّ ذاتها، ولها قمح الفرح في مناقير الطيور، ولها الصباح يمدُّ يده لوجهها سائلاً النور: «هجست عصافير كثيرة في الخارج/ ووجهُكِ أضاءَ الصباح...»، ولنوم «شادية» سهرٌ في عينَي حبيبها، الذي يغرف الضوء من جبينها، وينثره على المكان: «وأنتِ نائمة/ مسحْتُ على جبينك مسحتين/ ورحتُ أضيءُ بهما المكان»، ويتفرّغُ لعدِّ أشواقه وترتيبها وتذكُّر أمكنتها في خزانة الجسد: «وحيث أخذتُ أعدِّد أشواقي،/ أرتّبها/ أتذكّر كيف جمعتُ كلَّ واحد منها/ وفي أيّ مطرح من جسدي قد استقرّ». ويواصل الخنيزي احتفاليّة الجسد، على تعدُّدِ صور ومجاز بعيد من التشابه، فللجسدِ لغة وعبقريّة يعرفهما الشاعر جيّداً، لذلك نراه يمضي بالجسد إلى الظّل لتهدأ ألوانه، ومن هدوء اللون يولَد الصّوت: «فأحببنا الجسد وقلّبناه في الظّل حيث تخفف الألوان/ ويستفحل الصّوت». وفي قفير الجسد يدوّي نحلٌ وتنزل ملكات عن عروشهنَّ كلّما آن أوان العسل: «وأيّ شاهد أصاخ السمع إلى دويّ النحل حين/ استسلمت الملكات وانقطر العسل قطراً».

والحبُّ عند الخنيزي يُحتفل به ابتداءً من قمّة الجبل، فنزولاً إلى الشاطئ. إنّه حبٌّ ملحميّ في ميدان العاطفة. حبٌّ يحتاجُ سريراً يمتدُّ من جبل إلى بحر، من بحر أزرق يعلو بلا ماء، إلى بحر يضيق بأزرقه المبتلّ: «أيّ مائدة للعسل مددنا نزولاً من قمّة جبل/ حيث أقمنا الحبّ،/ حتى صفحة الماء/ حيث لامست الشراشف طيور الماء غفلةً منّا...».

ماهية الشعر

وفي نص « في المعنى» حاول الخنزيري أن يقول ماهيّة الشعر، فرآه قليلاً من الكلام، يأتي بعد يقظة، كأنّه صناعة حلم، أو صناعة ليل يحتضن رسّامي الشموس: الشعر كلام قليل/ يكون لك متى/ استيقظت من غفوتك/ أيّها الشفاف في المنام/ المعتم في اليقظة». أمّا لمن الشعر؟ فهو للآتين من ساحات المخيّلة، الطاعنين في الكذب الأبيض المنتقل بالوراثة: «هو كلام قليل يقال في الترحاب/ الذي تقوله أيّها الناطق/ للجموع الآتية من تاريخ مخيّلتك/ للجماهير التي تحيا في الكذب الأبيض/ الذي توارثْتَه من سلالتِكَ».

 ويقف الخنيزي على قمّة الذاكرة البشريّة، في قصيدة «فقه المكان»، مستحضراً شعوباً وممالك، نافخاً في القصب الحزين على مرارة وعبثيّة، فكلّ حراك إنساني وكلّ عَرَقِ جسدٍ وعقلٍ تقوده بوصلة الحياة نحو النهاية: «النهاية! النهاية! واللاشيء هو المبتغى». ولم تكن مصابيح الإنسان أكثر من علبٍ تبعثُ الوهمَ نوراً في متّسعات المكان وزواياه، وتمضي بأصحابها صوب سواد الفراغ: «أيّ مكوّن كانت، وأيّ وهم خبّؤوه في مصابيحهم/ التي حملوها عبر الصحارى والأهوار/... دون أن يروا عربات الآشوريّين/ أو الألواح التي كُتبَت بالمسامير/ أو بابل التي تتألّق كشمس مذكّرة».

 وللخنيزي حكايات مع المدن، ومنها مع «القاهرة» التي استمالته بعين وصّاف يخبّئ الشّعر في ظلال المشهد، مجتازاً ما يرى إلى ما لا يُرى عميقاً في ذات الإنسان: «وعلى النهر الملتوي كالشرايين في ظاهرِ يدِ النّوتيِّ الذي ينزّلُ الرّتلَ على دكّةِ المركب النهريّ، ويحدِّقُ بعينيه الغائرتين في طبقات الرماد الناعمة لذلك المساء». ففي القاهرة جمالٌ ذو اتجاهين: جمالٌ يخرج من الطبيعة ويعبر الإنسان، وآخر يخرج من الإنسان ويسطو على الطبيعة، والجمالُ الطالعُ من الإنسانِ، هو وليدُ جباه تعرَقُ وأيدٍ تُطلِقُ ماردَ الدهشة من أسرِ المادّة والمحسوس: «في مثل هذه اللحظة يكون مناسباً أن يتوقّف الزجّاجون عن نفخ الأشياء الصقيلة من حجر المرو المصهور. والدّباغون عن جمعِ الجلودِ والفروِ.../ وسينفثون الأشباحَ الخارجةِ من روحِ التبغِ الخالصِ وجوهر الفاكهة»...

الموت

وإذا كان الخنيزي يكتب الحياة بما فيها من صخب المعاني والجسد، فإنّه لا ينسى أن يُدخِلَ الموتَ مشهدَه ويخصِّصَ له بعضاً من لغته العميقة.

الموت، عند الخنيزي، محاصرٌ بالأسئلة، ولا إجابةَ بلا «ربّما»، هذه الكلمة التي تختصر اليقين الضّبابيّ: «أهو موت فزع؟ فيه حال الهروب ممّا يدمرُّ الحياةَ فيزيائيّاً... الخوف ربّما من موت فيه عقاب للجسد على ابتذالاته، تعاساته ووحدته، ونزعاته. أم هو موت مستسلم تنطفئ فيه الروح»... ومع الموت وجهاً لوجه يعلنُ الشاعر أنّ الجسد لن يخسر دلاله، وأنّ الروح هي أبداً ترتدي ظلاله: «جسدي ابني المدلّل.../ وروحي البنت الموالية بأخلص ما يكون عليه الولاء»...

     في «اختبار الحاسّة أو مجمل السّرد» تعدّدت النصوص على نَفَس واحد ومزاج شعريّ يعيد نَفسَهُ، بلا تكرار، ويثبت أنّ غسّان الخنيزي عنده ما يقوله للكلمة المتوّجة بالجمال.