أشعر في هذه الأيام بأن عبئا كبيراً يقع على عاتق جهاز المخابرات المصري في تأمين البلاد من الأخطار التي تهددها، إذ لم تمر مصر بما تمر به الآن من مخاطر محتملة من كل حدودها من الاتجاهات الأربعة، يضاف إلى ذلك تلك الحالة من التربص من قوى إقليمية ودولية للتغيير المصري الذي تمثّل في الإطاحة بالإخوان في الثلاثين من يونيو 2013، والإطاحة بمخططات تستهدف المنطقة بأسرها، عندما أسقطوا رأس التطرف في مصر فسقطت بالتالي الأذرع تباعاً.
قرأت كتابا صدر منذ عدة سنوات، رأيت أن أذكّر به في هذا المقام وهذا التوقيت، الكتاب هو «تجربة للتاريخ - أسرار لم تنشر من قبل عن تجربة شركة النصر للتصدير والاستيراد». الكتاب عبارة عن حوار طويل أجراه د. باسم عادل (مؤلف الكتاب) مع السيد محمد غانم، رجل المخابرات الشهير ومؤسس وأول رئيس لشركة النصر للتصدير والاستيراد، أهمية هذا الكتاب أنه يأتي في أيام يعود فيها الحديث مجدداً عن حدود الدور المصري في إفريقيا، والكتاب هو أول دراسة توثق تجربة شركة النصر في إفريقيا، وتاريخ شركة النصر وارتباطها بأدوار وطنية باتت أمراً معروفاً للجميع.أسست شركة النصر للتصدير والاستيراد في عام 1958 كشركة قطاع خاص صغيرة برأسمال 25 ألف جنيه، ثم أمّمت عام 1961 وزاد رأسمالها إلى مليون جنيه. وهنا بدأ نشاطها الحقيقي، بعد 6 سنوات فقط من هذا التاريخ، أصبح لشركة النصر للتصدير والاستيراد 25 فرعاً في إفريقيا وأوروبا والبلاد العربية، وفي السنة التالية لذلك أصبحت تمتلك أسطولاً للنقل البحري بحمولة 215 ألف طن. وفي أواخر الستينيات أصبحت الشركة، وفق تقدير جامعة إلينوي الأميركية واحدة من أهم 600 شركة على مستوى العالم، وقد وصل عدد العاملين فيها إلى 3500 موظف، بينما اعتبرها بنك «أوف أميركا» الشهير أنها بالنسبة إلى دول حوض المتوسط تعادل شركة ميتسوبيشي العملاقة في الحجم والقوة الائتمانية بالنسبة لليابان.في عام 1958 عاد السيد محمد غانم من بيروت، بعد أن قضى هناك ثلاث سنوات في عملية مخابراتية مناهضة لحلف بغداد، وذلك عبر غطاء شركة «النيل للإعلانات» التي عمل مديراً لفرعها في بيروت، وكان يريد أن يحظى بشيء آخر غير الغطاء الدبلوماسي يمكنه من القيام بعمله ذي الطبيعة السرية، وخاصة أن اسمه في عالم المخابرات كان معروفاً لكل الأجهزة الغربية، وجاءت في ذهنه فكرة تأسيس الشركة التي اتخذها غطاء لعمله، أصر على أن تكون تسميته شركة «النصر للتصدير والاستيراد» بنفس هذا الترتيب «التصدير» قبل الاستيراد، وذلك بهدف أن تشكل هذه الشركة انفتاحاً لمصر على أسواق العالم.في هذا التوقيت - بداية الستينيات - كانت إفريقيا كلها تحت الاحتلال، باستثناء مصر وليبيا وتونس والمغرب، وكانت القارة السمراء مغلفة بالاستعمار والفقر والمرض، ومغلقة على سفارات أربع دول فقط.. أميركا وبريطانيا وفرنسا و.. إسرائيل طبعاً.ويبدو أن ذلك الوضع المعقد هو ما استفز السيد محمد غانم، فقرر اختراق قارة إفريقيا ومواجهة الأعداء هناك، وكانت البداية بإفريقيا الاستوائية قبل أن تتوسع الشركة لتمارس نشاطها في 25 دولة إفريقية أخرى. كان الرعايا الأجانب من الدول الاستعمارية يرغبون في تصفية ممتلكاتهم بالدول الإفريقية المحتلة، استعداداً للعودة إلى أوطانهم، وذلك عن طريق بيعها، بشرط قبض الثمن في أوروبا، حيث كان من غير المضمون بالنسبة لهم الخروج بأي أموال من الدول الإفريقية المستقلة حديثاً.واستغلت شركة النصر هذه الفرصة لشراء الأراضي والعقارات التي أصبحت في ما بعد مقار للشركة في قلب إفريقيا، ومنها بناية شركة النصر العملاقة في أبيدجان - عاصمة كوت ديفوار- وقد تحمّس رئيس البلاد لهذا المشروع، لدرجة أنه شارك في وضع حجر الأساس للمبنى، وشارك في افتتاحه ومنح السيد محمد غانم وساماً رسمياً بدرجة رئيس وزراء. ومن بين ما ذكره الكتاب أن أحد رؤساء الوزراء السابقين أراد بيع ذلك المبنى في أبيدجان بمبلغ أقل كثيراً عن قيمته الحالية التي تقدر بالمليارات، وذلك لسداد ديون الشركة، وأن السيد محمد غانم قاد معركة في مجلس الشعب لمنع هذه «الكارثة».. ونجح في وقف البيع.
أخر كلام
من ذاكرة الاقتصاد والاستخبارات «النصر للتصدير والاستيراد»
06-12-2014