وأنا أطالع الكُتيب الرئيس للدورة الثامنة لمهرجان وهران الدولي للفيلم العربي، استوقفني اسم نوفل صاحب الطابع مخرج الفيلم التونسي {الزيارة}، وأحسست أنني أعرفه غير أنني لم أتذكر المكان والمناسبة. ولما عدت إلى سيرته الذاتية، أدركت أنه مخرج فيلم {الكُتبية}، أي المكتبة، الذي شاهدته في عام 2002، ولمست لدى مخرجه الشاب، الذي حصل على دبلوم الدراسات العليا في السينما والاتصال البصري من جامعة كيبك، موهبة طيبة، وأيقنت أنه يملك الكثير الذي يقدمه في المستقبل، قبل أن يختفي من الساحة، ولا أعلم عنه شيئاً، حتى رأيت اسمه في مهرجان وهران العربي للفيلم الدولي متصدراً الفيلم الروائي الطويل الجديد {الزيارة}، الذي شارك في كتابته مع طارق شعبان، الذي تعاون معه في تجربة {الكُتبية} .

Ad

غاب {الطابع} طويلاً، ومع عودته بدا وكأنه يُكمل مشروعه، الذي بدأه واهتم من خلاله بتأكيد الهوية، ورأب الصدع الذي يعتري العلاقة بين المواطن التونسي وواقعه، ففي {الكُتبية} تناول العلاقة المتوترة بين الشاب التونسي الذي عاش سنوات في فرنسا، والزوجة الشابة التي تهوى الغناء، بينما يقدم في {الزيارة} سائق التاكسي {يوسف} - الممثل غازي زغباني – الذي يعيش حياة متخبطة تسيطر عليها الهواجس والهلوسات، ويلتقي فتاة جميلة - نادية والي - تتقرب إليه، ويرتاح إليها، رغم غرابة أطوارها، وزياراتها المريبة المتكررة إلى شقته التي يسكنها بمفرده، ويحلو له أن يصنع فيها نماذج السيارات الصغيرة.

منذ الوهلة الأولى يُدرك المتابع للفيلم أن الفتاة {روح} هائمة، وأن ثمة علاقة تربطها و{يوسف} لكن الحقيقة تبدو غائبة عن الأخير حتى اللحظة التي يكتشف فيها أن الدار التي أقل الفتاة إليه، وظنه مسكنها، مهجورٌ منذ زمن طويل، وأن مجرد الإشارة إليه يثير قلق وغضب {عم سعد} (صلاح مصباح). ولأنه عاجز عن مجاراة الواقع يجد نفسه مأخوذاً بالماضي، ويقع فريسة للذاكرة والذكريات، ويُبحر في رحلة مُرهقة يبحث فيها عن ذاته - هويته – ويُصر على اقتحام الدار، الذي يتعرف إليه من خلال إحدى الصور التي بحوزته. وسرعان ما تتجلى الحقيقة كاملة، فقد سكن، وعائلته، الدار عندما كان والده يعمل لحساب الإيطالي {فانتيني}، الذي أقام علاقة مشبوهة مع الأم أسفرت عن الطفلة {مريم}، فما كان من الأب سوى أن ضرب زوجته الخائنة، وسقطت {مريم} في البئر فظنت الأم أنه قتلها فانتفضت غاضبة لكنه عاجلها بضربة قاتلة أودت بحياتها!     

دراما نفسية يعرج {الطابع} من خلالها إلى منطقة مختلفة عن تلك التي اقترب منها في {الكُتبية}، ويبدو متميزاً في صنع الأجواء الغامضة والمثيرة لعالم الأرواح، ومتبحراً في ثقافة استخراج الجن من الجسد، أو ما يُطلق عليه في تونس {فن الاستانبولي}، الذي يدرأ الشر، ويُسكن آلام الإنسان. غير أن أهمية فيلم {الزيارة} تكمن في ثراء مضمونه، وتعدد قراءاته، ففي الإمكان القول إنه يُسقط على الشعب التونسي الذي يبحث عن هويته، ويُشير إلى أن {فانتيني} ليس سوى المحتل الذي انتهك البراءة - الأم - بينما يمكن تأويل {دار النور} بأنها الوطن، كما يحذر من أن نُصبح أسرى الماضي، مؤكداً أن الانغماس في الماضي، واللهاث وراء الغيبيات، يُلهينا عن الحاضر والمستقبل، ويُصيبنا بالهلوسات، وربما الفصام!

هذا التداخل بين الواقع والخيال فضلاً عن الاستثمار الرائع لتونس القديمة، بأزقتها وحواريها وبيوتها الأثرية ذات الطرز المعمارية النادرة التي أضفت على {الزيارة} واقعية ومصداقية، اكتمل بالتوظيف الأخاذ للموسيقى، والاختيار الملائم للمطرب صلاح مصباح عازف موسيقى {الاستانبولي}، والممثل التونسي غازي زغباني في دور الشاب الثلاثيني الموجوع في حاضره، والمؤرق بماضيه، لكن السيناريو بدا وكأنه يستلهم {التراجيديا الشكسبيرية} بتوريط {يوسف} في معركة عبثية مع مجهول يسكن الدار المهجور، ويقتله من دون أن يدري، مثل {أوديب} في الأسطورة الشهيرة، أنه أباه الذي هرب من ماضيه كمجرم قتل زوجته، وهي مبالغة ميلودرامية لم يكن الفيلم في حاجة إليها، فالصورة الموحية في مكانها، والغموض المثير حاضر، والغوص في الماضي بحثاً عن الحقيقة له مبرره، والمقدمات (الصورة المتكررة لأمه تناديه ثم تحتضنه بدفء واليد المجهولة التي تمنحه ذيل الأرنب) تبدو كاللوحة التي اكتملت بعد إضفاء الرتوش الأخيرة (الأم في خلوة مع {الإيطالي} صاحب اليد المجهولة الممدودة بذيل الأرنب بينما الأب لا وجود له في الصورة)!  

{الزيارة} لا يفرض رأياً مُسبقاً على جمهوره، بل يترك للمتلقي حرية استقباله، حسب قناعاته، خلفيته الثقافية، ووعيه، وانطلاقاً من ذات النهج يتمرد على الصورة الذهنية الشائعة للروح، التي تظهر على الشاشة وهي تُحلق في السماء، أو ترافقها هالة نورانية تُبهر الأعين، وإنما قدمها في صورة بسيطة تحترم العقل والمُعتقد معاً.